عرفتُ العم ياسر منذ ما فتحتُ عينَيّ على الدنيا لأنّه كان جارنا والكل كان على علم بقصّته المؤلمة: كان المسكين يتيم الأب والأم وابنًا وحيدًا وعمِلَ جهده للبقاء حيًّا في عالم لا يرحم. ولأنّه لم يستطع تحصيل أيّ علم فتحَ محل سكافة وأخذ يصلح ويدهَن أحذية الجيرة.
ولا أدري تمامًا ما الذي اثَّرَ بي في ذلك الرجل ولكنّني كنتُ دائمًا أمرّ بدكّانه لألقي عليه التحيّة وكنتُ أفتعِل الخدوش على حذائي كَي أعطيه عملًا يستفيد منه.
ولاحظَت أمّي ذهابي وايّابي مِن عند العم ياسر وقالت لي مبتسمة:
ـ كم أنّ قلبكَ جميل يا بنيَّ... انا فخورة بكَ.
ـ عمّا تتكلّمين يا أمّي؟
ـ عن غيرتكَ على الاسكافي... عِدني بشيء... عِدني أن تبقى نقيّ الروح عندما تكبر... ايّاكَ أن تتغيّر حتى لو خيّبَت أملكَ الحياة... انتَ الآن بأمان في كنَفَ أهلكَ ولكنّ الأمور ستتبدّل عندما تدخل معترك الدنيا وتخذلكَ الناس ويقسى قلبكَ.
ـ لا تخافي يا أمّي".
وأثّرَ كلام والدتي عليّ كثيرًا لأنّني أخذتُ في ذلك اليوم قرارًا مهمًّا وهو أن اهتمّ بالعم ياسر حتى آخر حياته. وبالرغم مِن أنّني لم أكن سوى في العاشرة مِن عمري كنتُ فعلًا أنوي تنفيذ وعدي مهما حصل.
ومرَّت الأيّام والأشهر ومِن ثم السنوات وأصبحتُ أستاذ مدرسة بعد أن حصلتُ على شهادة في التعليم. ولم أكفّ عن زيارة العم ياسر واعطائه أحذية لا مشكلة فيها. أمّا هو فكان ينظر اليّ بامتنان ويقول لي كل مرّة:
ـ الله يعطيكَ على قدر نيتّكَ يا بنيّ ويبعد عنك الأذى".
ولم أتصوّر أن دعاءه هذا سيغيّر حياتي ويبعث لي ملائكة تحميني مِن الضرر.
والجدير بالذكر أنّني لم أكن أؤمِن أبدًا أنّ للكلمات مفعولًا فعليًّا بل كنتُ أعتبرها نابعة مِن نفسيّة أمّا طيبّة أو سيئّة.
فأكملتُ مسيرتي في التدريس الذي وجدتُ فيه رسالة سامية لِتنشأة الأجيال على مثال تربيتي أي على محبّة الناس وتفهّم ظروفهم مهما كانت قاسية.
والغريب في الأمر أنّني لم أواجه في أي وقت مِن حياتي أي مشكلة كبيرة بل كان كل شيء يسير على النحو الذي رسمتُه لنفسي ورددتُ الأمر الى قلبي الكبير الذي يستوعب الناس والأمور بإيجابيّة تامة.
ولكنّ حياتي كانت ستأخذ منعطفًا جذريًّا لم أتوقّعه أبدًا.
ففي ذات يوم نظّمتُ رحلة لتلاميذي الى حرج مليء بالأشجار والنباتات بقصد تعليمهم عن الثروة الحرجيّة في بلدنا وكيفيّة الحفاظ عليها. فأمَّنَت لنا ادارة المدرسة باصًا كبيرًا وسائقًا وانطلقنا في الصباح الباكر الى تلك المنطقة البعيدة والوعرة. وحين وصلنا الى المكان ترجّلنا جميعًا إلّا السائق الذي بقيَ في الباص ريثما نعود. عرضتُ عليه مرافقتنا ولكنّه رفَضَ قائلًا:
ـ لا! أعرف ذلك الحرج عن ظهر قلب... اذهبوا وسأكون بانتظاركم".
وهكذا أخذتُ الصغار الى قلب الحرج وأرَيتُهم شتّى الأشجار والنبتات وتحدّثنا مطوّلًا عنها وعن الخطر الذي يهدّدها.
ولكن ما لم أكن أعلمه هو أنّ السائق بقيَ في الباص ليتمكّن مِن شرب الكحول، الأمر الذي لم يكن يستطع فعله علنًا. كان قد جلَبَ معه قنينّة وسكي وبعض المقبلّات وجلَسَ يفرغ محتوى القنينّة في بطنه الى أن أنهاها كلّها.
وعند عودتنا الى الباص لم ألاحظ أبدًا أي تغيّر في تصرّفات السائق لأنّني لم أتبادل معه الكلام بل فقط تحيّة خاطفة لكثرة انشغالي بِعَد التلامذة قبل الانطلاق.
وأخذنا طريق العودة المليئة بالحفر والتعرّجات. ولكن بعد حوالي الربع ساعة ظَهَرت أمامنا شاحنة ولم يستطع السائق تفاديها إلّا بالانعطاف نحو الوادي. وانقلبَ الباص ونزل المنحدر الى أن توقّف في أسفل الوادي.
ولأنّني كنتُ واقفًا لأراقب التلامذة طِرتُ خارج الباص وفقدتُ وعيي. وعندما فتحتُ عينَيّ وجدتُ نفسي وسط مجموعة مِن شجيرات كانت قد تلقَّت هبوطي. وحين قمتُ عن الأرض رأيتُ العم ياسر جالسًا أمامي على صخرة حاملًا حذاءً يلمّعه بتأنَ. صرختُ له:
ـ عم ياسر! ماذا تفعل هنا؟؟؟
ـ ماذا تراني أفعل؟
ـ أعني هنا في أسفل الوادي!
ـ وهل مِن مكان معيّن لتلميع الأحذية؟
ـ إنّه حلم! بالتأكّيد حلم! يا الهي... هل أنا ميّت؟ أجِبني! هل أنا في دنيا أخرى؟
ـ لا يا بنيّ... لم تمت... لا تخَف.
ـ وتلاميذي؟ هل هم بخير؟ أين هم؟ أين الباص؟ أين السائق؟ أجبني! اترك هذا الحذاء! أريد أن أعرف ماذا حلّ بتلامذي! ما بكَ لا تجيب!؟!
ـ كفى صراخًا... ستخيف أهل الوادي! استلقِ قليلًا فأنتَ متعب.
ـ لن يهدأ لي بال قبل أن أطمئنّ على صغاري!"
وشعرتُ بدوار شديد ووقعتُ أرضًا وفقدتُ وعيي مجدّدًا.
واستيقظتُ على أصوات قادمة مِن كل مكان ورأيتُ تلاميذي يحيطون بي قلقين. ابتسمتُ لهم وسألتُهم:
ـ هل الجميع بخير؟
ـ أجل سيّدي... ماعدا السائق... رجله مكسورة ولكنّه لا يتألّم بسبب ما شربه... فرائحته كحول!".
وأخذتُ هاتفي وطلبتُ النجدة التي قدمَت في وقت قصير. وقبل مغادرة الوادي نظرتُ حيث كان العم ياسر جالسًا وضحكتُ على ما تخيّل لي.
فمِن الواضح أنّني كنتُ أحلم وأوّل شخص رأيتُه في حلمي كان أعزّهم الى قلبي. وبالرغم مِن أنّ لا أحد منّا أصيب ولو بِخدش، ذهبنا جميعًا الى المشفى لنتأكّد مِن عدم وجود إصابات داخليّة. وجاء مسؤول مِن المدرسة ليسأل عن ظروف الحادث واستمع الى أقوال الطلّاب ومن ثم اتصلنا بأوليائهم ليأتوا ويصطحبوهم معهم. وكي لا أشغل بال أهلي هاتفتهم وقلتُ لهم إنّني ذهبتُ مع بعض الزملاء لِتناول العشاء. وبعد أن اطمأنيتُ على صغاري والسائق عدتُ الى البيت لأنام وارتاح بعد ذلك اليوم العصيب.
وفي صباح اليوم التالي أسرعتُ الى دكّان العم ياسر. كان عليّ رؤيته للتاكّد مِ، أنّه في محلّه وليس في الوادي رغم يقيني بأنّني حلمتُ بذلك. وحين دخلتُ الدكّان ورأيتُه يعمل على تصليح حذاءٍ ارتاح بالي.
نظر اليّ الرجل وسألَني:
ـ ما بكَ؟ ليس مِن عادتكَ أن تمرّ عليّ في الصباح.
ـ لا شيء... اشتقتُ اليكَ وحسب".
عندها ابتسم العم ياسر وقال لي:
ـ جئتَ تتأكّد... أليس كذلك؟
ـ مِمّا؟
ـ ارحل الآن... فلدَيّ عمل أنهيه... ألا ترى أنّني مشغول؟
ـ ممّا جئتُ أتأكّد؟ أجبني!
ـ أنتَ كثير الأسئلة... على المرء أحيانًا أن يقبل بما يراه أو يسمعه مِن دون أن يطرح الأسئلة... اذهب الى عملكَ.
ـ عم ياسر... هل كنتَ البارحة معي؟
ـ أنا؟ لم أبارح دكّاني!"
عندها فهمتُ أنّني رأيتُه في حلمي خلال غيبوبتي. نظرتُ الى الرجل بحزن لأنّني أردتُ أن تكون هناك ابعاد أخرى للأمور التي نعرفها وتمنَّيتُ له نهارًا سعيدًا. وقبل أن أغلق الباب ورائي سمعتُ العم ياسر يقول:
ـ ولكن لدَيّ أصدقاء في كل مكان".
ابتسمتُ وغادرتُ وقلبي مليئ بالأمل.
هل ما حصل لي كان مجرّد هلوسة أم حقيقة؟ هل توجد فعلًا ملائكة حارسة أم أنّها أمنية تقبَع داخل كل منّا؟
لا أملك سوى تلك القصّة ولكنّها كانت كافية لِحملي على مواجهة كل ما سيحصل لي بتفاؤل.
توفّي العم ياسر بعد سنوات وأنا شبه أكيد أنّه يبقي عينًا ساهرة عليّ مِن حيث هو.
حاورته بولا جهشان