هو مقهى. مقهى افتراضي. إسمه: "الجنس والجندر". له طاولات ستّة يّقدَّم على كلّ منها للجالس/ المشاهد فيلمٌ قصيرٌ بطله مصمّمٌ للرقص، كاتبةٌ، ناشطةٌ، راقصٌ، رسّامٌ ومخرج. لكلٍّ كلمته وموقفه من الواقع العربيّ الحاليّ، ليس السياسيّ، وإنّما الحقوقيّ والجندريّ وانعكاساتهما على المعنى الوجوديّ ككلّ للإنسان العربيّ الآن.
سؤالٌ واحدٌ يطرحه الرسّام المصري المقيم في ساحة التحرير عادل سيوي، يتحوّل إلى طرح فلسفيّ وإشكاليّة إنسانيّة، تحليليّة، متكرّرة عبر التاريخ ومتلازمة والتغيّرات التي يمرّ بها المجتمع على الخلفيّات السياسيّة والدينيّة الفاعلة أبداً في كيان المواطن العربيّ: "لماذا على الجسد أن يدفع ثمن إنكسارات الروح؟"
ويأتي هذا السؤال كافياً لتفسير المحور الذي انطلقت منه المخرجة اللبنانيّة ذات الشهرة العالميّة جوسلين صعب لتُخرج الأفلام الستّة القصيرة كإنتاج خاصّ وحصريّ مكمّل لمعرض ثقافيّ كبير ينظّمه متحف الحضارات في أوروبا ومنطقة البحر الأبيض المتوسّط MuCEM في مرسيليا، في فرنسا من 5 يونيو/ حزيران ولغاية 6 يناير/ كانون الثاني 2014.
في عرض حصريّ لأهل الصحافة والإعلام، وبحضور المخرجة شخصيّاً، تمّ عرض هذه الأفلام الستة اليوم (الأربعاء) في سينما أبراج بحضور فريق العمل الإنتاجيّ The Post Office. وأعطى كل فيلم مساحة حريّة وتعبير شخصيّ وفكريّ لشخصيّة فنيّة إبداعيّة من بيروت والقاهرة والجزائر واسطنبول.
هكذا احتجّ مصمّم الرقص وليد عوني، وعنوان فيلمه "طاولة المجنون الأخضر"، على إقصائه من دار الأوبرا المصريّة بعد أن أدار فرق الرقص الحديث فيها لأكثر من عشرين سنة، كونه "تمادى" بحسب المنطق المتزمّت والمتطرّف الطاغي على الإبداع الفنّي في مصر اليوم. وجاء احتجاجه كلاماً ورقصاً تعبيريّاً يتخطّى قضيّة الفنان ليطال المجتمع والمرأة وحريّة التعبير الفنيّ.
وفي الفيلم الثاني "طاولة رسامّ الفراعنة والراقصات"، تكلّم عادل سيوي عن تواتر رسم الراقصات الشرقيّات وانبهاره بسحرهنّ، هنّ اللواتي كنّ فيما مضى أيقونات يتبارك منها الإنسان إذا لمسها.
وتبعه فيلم "طاولة مجلّة الجسد" وبطلته الكاتبة والصحفيّة جومانا حدّاد التي توجّهت الى المُشاهد بلغة فرنسيّة فصيحة، تقول ما لديها للقول عن المجلّة التي أصدرتها في لبنان والعالم العربيّ والتي تتكلّم عن الجسد، تماماً كعنوانها، بلغة أدبيّة حرّة وعن المعاكسات الرقابيّة التي واجهتها كونها تناولت "المحرّم" و"العيب"، وكأنّ هاتين الصفتين أصبحتا مرادفتين لكلمة "المرأة".
وانتقلت صعب إلى اسطنبول لتصوير الفيلم الخامس "طاولة البامية الذهبيّة" مع ميليك أوزمان وسونايت سبنويان القيّمَين على جائزة "البامية الذهبيّة" للفيلم الأكثر ذكوري. وبهذه الطريقة، وجد المخرجون السينمائيّون أنفسهم مجبرين على تغيير صورتهم المعنويّة والسينمائيّة على السواء إزاء المرأة وحقوقها في المجتمع.
أمّا الفيلم الخامس فجاء بعنوان "طاولة الرقص والكبرياء" مع الراقص اللبناني الكسندر بوليكفيتش والناشط في جمعيّة "حلم" التي تنادي بحقوق المثلييّن في لبنان. ويشرح بوليكفيتش بطلاقة لغويّة كيف يحوّل العنف اللفظي الذي يتعرّض له في حياته اليوميّة إلى رقصٍ فإلى طاقة إبداعيّة خلاصيّة يتعالى من خلالها عن واقع ظالمٍ قاسي.
وختام المجموعة كان فيلم "طاولة المطالبة الحتّميّة" للكاتبة الجزائريّة والناشطة النسويّة لحقوق المرأة واسيلا تمزالي التي عرضت مقاربتها لما تتعرّض له المرأة اليوم في العالم العربيّ من عنصريّة وقمع لصورتها وجسدها يصل إلى حدّ العنف الرهيب الذي يمحو كلّ أشكال الإحترام الإنسانيّ.
قد تكون هذه الأفلام مقتضبة في أشكالها التقنيّة (مدّة كلّ فيلم 4 دقائق تقريباً)، ولكنّ جاء كلّ واحدٍ منها مشحوناً بالفلسفة الوجوديّة التي تُستقى من واقع هؤلاء المبدعين، وهو ليس إلا واقع الإنسان العربيّ والمرأة العربيّة التي انتهك العنف جسدها ليُلثم عقلها.
احترافيّة في الإخراج، رقيّ فنّي في مقاربة الموضوع، صبغة شخصيّة وسلِسةللمخرجة في كلّ فيلم بعيداً عن تبنّي المواقف والمجاهرة بها؛ لم نتوقّع أقل من ذلك من جوسلين صعب صاحبة فيلم "دنيا"، ولكنّنا خرجنا من العرض بأكثر من توقّعاتنا بأشواط.
علّى الجمهور العربيّ أن يحظى بفرصة مشاهدة هذه الأفلام الإبداعيّة، بدل أن يتهافت إلى الإنتاجات الهوليوديّة التي لا تساوي بمعظمها في قيمتها المعنويّة أكثر من سعر كيس "البوب كورن" البخس.
دلال حرب
إضغطي على المربّع أدناه لمشاهدة المقتطفات الحصريّة لموقعنا من "طاولات مقهى الجندر" للمخرجة جوسلين صعب.