لماذا هناك أناس سعداء تحصل لهم دائماً أمور جيّدة بينما آخرون يصابون بالويلات الواحدة تلو الأخرى؟
أنا كنتُ من الفئة الثانية وكان القدَر قد ضربَني منذ صغري بشتى الطرق. ولدتُ في عائلة مرتاحة ماديّاً، حتى أن توفّيَ والدي عندما كنتُ في العاشرة من عمري وأُجبِرَت أمّي على العمل في مدرسة تراقب التلامذة خلال الاستراحة. معاشها كان بالكاد كافياً لإطعامنا أنا وأخي، فنقلَتنا إلى مدرسة حكوميّة مجانيّة. وبما أنّ شقيقي كان يصغرني بخمس سنوات، أصبحتُ أنا المسؤولة عنه وهكذا تحمّلتُ عبئاً كبيراً باكراً خاصة عندما أضطرَّت والدتي أن تعمل أيضاً في المساء كحاضنة أطفال عند أناس أغنياء. فبعدَ عودتي من المدرسة، كنتُ أقوم بالأعمال المنزليّة وتدريس أخي وتحضير الأكل ومن بعدها إذا بقيَ لي بعض الوقت، كنتُ أقوم بواجباتي وفروضي المدرسيّة. لم أتذمّر يوماً لأنّني كنتُ أعلم أنّ أمّي كانت مُجبرة على تركنا وحدَنا وكنتُ أنتظر بفارغ الصبر أن أكبر لكي أعمل وأخفّف عنها قليلاً. ولكن بعد حوالي أربعة سنوات، أصيبَت المسكينة بمرض خبيث أخذها بسرعة صاعقة ووجدنا أنفسنا فجأة وحيدَين. وخلال مراسم الجنازة، جاءَت سيّدة تُدعى منال وقالت لنا أنّها قريباتنا وأنّها ستأخذنا إلى بيتها. لم أكن أعرفها ولم أسمع عنها يوماً ولا أدري مِمن أخذَت الإذن أو الموافقة لكي تقرَر أنّها ستقوم هي بتربيتنا ولكنها فعلَت. وبما أنّ لم يعترض أيّ فرد من العائلة لهذا المشروع، ذهبنا معها. ونحن في طريقنا إلى بيتها، كانت فرِحة جداً وكأنّها وجدَت كلبين صغيرين في وسط الطريق وأنقذَتهما من الموت المحتوم. وصلنا إلى منزل كبير وفخم ووقفنا أنا وأخي ننظر إليه بدهشة، فلم نرَ مثله بحياتنا. أمسكَتنا السيّدة بيدينا وقادَتنا إلى الداخل وصرخَت:
- زلفا! زلفا! لقد عُدنا! هل كل شيء جاهز؟
وركضَت مدبّرة المنزل وأخذَت منّا حقائبنا ومشَت أمامنا إلى غرفة جميلة. هناك فتحنا أمتعتنا ووضعناها في الخزانة الضخمة. من بعدها توجهنا إلى غرفة الطعام حيث كان رجلاً جالساً ينظر إلينا وكأنّه لا يرانا. قدمَته لنا منال على أنّه زوجها وقالت أنّهما لم ينجبا ويشعران بملل عميق من دون أطفال في البيت. تنهّدَ الزوج ثم قال لها:
- أليسا كبيرين بعض الشيء؟ ظننتكِ ستجلبين أولاداً صغاراً.
- هذا كل ما كان متوفّراً.
شعرتُ بالغضب عند سماع هذا، فبالنسبة لها كنّا أشياء وليس أشخاصاً وكنّا نزوة من نزوات الأغنياء. ولكنّني لم أقل شيئاً لأنّنا كنّا قد وجدنا سقفاً يأوينا ولم يكن هناك مكاناً آخراً نذهب إليه. وغيّرنا مدرستنا لأنّها لم تكن تليق بمستواهم وذهبنا إلى مؤسّسة خاصة لم أحبّها وهناك تعلّمنا وكانت علاماتنا جيّدة. وفي هذه الأثناء لم نرَ منال أو زوجها كثيراً بل فقط أثناء الوجبات حيث كانا يتحدثان سوياً فقط وليس معنا. باقي الوقت كنّا تتواجد في غرفتنا أو مع زلفا. ومِن وقت إلى آخر، كنّا نذهب جميعاً إلى منزل أصدقائهما وتقول منال عنّا:
- إنّهما حياتي... كان يوماً مباركاً عندما جاءَا إلينا...
وكان هؤلاء الأصدقاء ينظرون إلينا بحنان والدمعة في عيونهم. لم يتأثّر أخي مثلي بهذه الأجواء الباردة والكاذبة لأنّه كان أصغر منّي وتركتُه يتخايل أنّه سعيد لكي لا أفسد براءته، أمّا أنا فكنتُ أحلم باليوم الذي أترك فيه هذا المنزل القبيح. وقبل أن أصبح في الثامنة عشر من عمري بأيّام جمعَتنا منال وقالت لنا:
- زوجي وأنا ذاهبون إلى أوروبا ولا نستطيع إصطحابكما معنا... ستبقيان هنا مع زلفا. أنا آسفة جداً...
إبتسمتُ سرّاً عند سماع هذا، فكان الأمر بمثابة خبر جيّد ولكنّني إدّعيتُ الحزن وقلتُ بصوت خافت:
- سنشتاق لكما كثيراً...
ورحلا بعد بضعة أيّام وشعرتُ أنّ حياتي ستبدأ أخيراً. كنتُ أحبّ زلفا، فكانت طيّبة معنا وتعاملنا كأننا حقّاً ولدَيها وفي غياب معلّميها إستطاعَت أن تعبّر أكثر عن حنانها لنا. وعشنا هكذا بضعة أشهر حتى أن وصلَنا خبر بأنّ منال لن تبعثَ لنا بالمال وأنّ علينا الرحيل. كنتُ على وشك دخول الجامعة وهذا الخبر غيّرَ مشاريعي كلّها. وجدتُ نفسي في ضياع كلّي فأين كنّا سنسكن ومن أين سنأكل ونعيش؟ بكيتُ كثيراً ولعنتُ حياتي البائسة. ولكن فاجأتني زلفا عندما جاءَت إلى غرفتنا وقالت لي:
- إسمعي... لديّ شقّة صغيرة... غرفة وحمام... كنتُ أعيش فيها قبل أن أعمل هنا... ورثتُها عن أهلي رحمهما الله... إذهبي مع أخيكِ إلى هناك وعيشا فيها قدر ما تشاؤون. بيتي هنا الآن ولن أعود إلا عندما أكبر... وخذي هذا المال فأنا لستُ بحاجة إليه... وضعتُه جانباً كل هذه السنين ولم أصرف منه فلساً فكل شيء مؤمّن هنا... أرجوكِ أن تقبلي... أنتما بمثابة أولادي وليس عندي أعزّ منكما.
قبلتُ عرضها لأنّه لم يكن لديّ خياراً آخراً ووعدتُها بأن أعيد لها مالها في يوم من الأيّام. قبّلتُها كثيراً وبكَينا سويّاً ورحلتُ مع أخي في اليوم التالي. شقّة زلفا كانت حقّاً صغيرة ولكنّها كانت كافية لتأوينا وبعد أن إستقرّينا بها عملتُ على التفتيش عن مورد رزق لأكمّل تعليم شقيقي وأؤمّن قوتنا. ووجدتُ عملاً في محل أحذية راق في وسط المدينة، وظّفَني بسبب إتقاني لللغّات التي تعلّمتُها في تلك المدرسة المرموقة التي وضعتها بها منال. وبدأتُ أجني المال وتأمّلتُ بغد أفضل من الذي عرفتُه حتى الآن. مرَّت الأيّام بهدوء وبعد سنتَين أصبحتُ مديرة المحل بفضل عملي الجاد والدؤوب. وتخرّجَ أخي وبدأ يساعدني بالمصروف. بقيتُ على إتصال مع زلفا أطلُعها على سير حياتنا وأسأل عن أحوالها. علِمتُ منها أنّ منال وزوجها عادا بعد رحيلنا بقليل وأنّهما تبنّيا ولدَان جديدَان. أسفتُ لهذين المسكينين، لأنّهما سيكونان سلوى الثنائي لفترة قصيرة قبل أن يجدون أنفسهم على الطريق. ثم شاءَت الصدف أن أقابل زياد، شاباً لطيفاً ووسيماً، عندما ذهبتُ إلى معمل الأحذية لوضع الطلبيّة للمحل. كان هو إبن صاحب المؤسسة وأُعجبَ بي وطلبَ أن يراني مجدّداً. وبعد أن تواعدنا لفترة طلبَ منّي أن أصبح زوجته وقبلتُ. كان بإمكان ترك أخي الذي أصبح في عمر يمكنه الإعتماد على نفسه، خاصة بعدما وظّفه زوجي في معمله. وإبتسمَت أخيراً لي الحياة بشخص زياد الذي أحبَّني كثيراً. في الواقع كان الإنسان الوحيد الذي جعلَني أشعر أنّني جميلة وأحسستُ لأوّل مرة أنّني إمرأة. وحين علِمتُ أنّني حامل قلتُ لزياد:
- لديّ طلب واحد وأرجو منكَ أن تقبل... أحوالنا جيّدة خاصة أنّكَ فتحتَ فرعاً جديداً للمعمَل في الخارج... أريدُ أن تأتي زلفا وتهتمّ معي بالطفل... أنت تعلم أنّه من دونها كنّا أنا وأخي في الشارع ولا أحد يعلم ما كان سيحدث لنا... أنا مدينة لها بكل شيء...
قَبِلَ فوراً لأنّه كان على علم بحياتي كلّها من بدايتها حتى اليوم الذي رآني فيه. وإتّصلتُ بزلفا وقلتُ لها:
- هيّا وضّبي أغراضكِ... سآتي لآخذكِ إلى بيتي... ستعيشين معنا ولن أجد أفضل منكِ ليهتمّ بطفلي... أنتِ أمّي الثانية وستكونين أمّه الثانية أيضاً.
وأعدتُ لها الشقّة والمال الذي أعطَتني إيّاه وولدَ إبننا وأسمَيته رجاء لأن الحياة مليئة بالرجاء حتى عندما نظنّ أن المصائب تتراكم فوق رؤوسنا. فهناك دائماً بصيص أمل في الأفق.
حاورتها بولا جهشان