ما أقنعني بالزواج مِن توفيق، كانت إمكانيّاته الماديّة وليس وسامته أو شبابه. فكان يكبرني بخمسة وعشرين سنة وهذا الفرق الشاسع بالعمر كان واضحاً، خاصة أنّ جسمه كان هزيلاً وشعره أبيض. حاول أصدقائي تنبيهي مِن هكذا إرتباط ولكنّني بقيتُ مصرّة لأنّني ذقتُ طعم الفقر عند أهلي ولم أكن مستعدّة أن أقضي باقي حياتي في العوز. كنتُ أريد الأشياء الجميلة التي كنتُ أراها في المجلّات والأفلام وبادلتُ جمالي وشبابي مقابل المال. وبالإضافة إلى ذلك، فكنتُ أكنّ لتوفيق بشيء مِن الحنان خاصةً أنّه أثبت لي أنّه يحبّني كثيراً وأنّه مستعدّ لفعل أيّ شيء لإسعادي. وهكذا أصبحنا زوجة وزوج وذهبنا إلى شهر عسلنا في هايتي جزيرة رائعة لم أكن لأراها يوماً لولا توفيق. وعندما إستقريّنا في مِنزله الجميل، حضرّتُ نفسي لأعيش حياة الرفاهيّة التي حلمتُ بها سنيناً طويلة. وإرتحتُ جداً بدور سيّدة المِنزل التي تستقبل ضيوفها بأناقة وتحضُر الحفلات والمهرجانات برفقة رجل الأعمال الناجح وتظهر في المجلّات الإجتماعيّة. ولم أشعر بالفراغ العاطفي إلّا بعد سنة، خاصةً بعد ما علمتُ أنّ زوجي لا يستطيع الإنجاب وأنّه كان مِن المستحيل إجراء تلقيح إصطناعي بسبب خلل في حيواناته المنويّة. وعندها فهمتُ أنّ السنين القادمة ستكون موحشة دون طفل يملىء حياتي ويشبع حسّي بالأمومة.
وحاول زوجي التعويض لي عن هذا النقص وغمرني بلطفه وبالهدايا ورضختُ للأمر الواقع. وبدأتُ أنشئ جمعية خيريّة تُعنى بالأولاد وتابعتُ حياتي. ولكن بعد فترة بات إمتعاضي واضحاً وأصبح مزاجي صعباً، أنظر إلى توفيق وكأنّه السجّان الذي سأقضي معه سنيناً ستكون طويلةُ جداً. وفضّلتُ قضاء معظم وقتي في مقرّ الجمعيّة لكي أموّه عن نفسي قدر المستطاع، فهناك كانت الأمور مسليّة ووجود هؤلاء الأولاد أعطى معنى آخر لحياتي. تأثّر زوجي كثيراً بما يجري وبات الحزن بارزاً على وجهه ولاحظ الجميع أنّه لم يعد الإنسان النشيط والسعيد الذي تعوّدوا عليه. وفي إحدى الليالي صارحني بما يقلقه:
- أعلم أنّني السبب في تعاستكِ... وكل ما أردته هو إسعادكِ يا حبيبتي... ولو كنتُ أعلم أنّني لا أستطيع الإنجاب لما أقحمتكِ بهكذا مشروع... أنا آسف جداً...
- صحيح أنّه أمر مؤسف... ولكن ما العمل؟ هناك شيئاً بداخلي تتوق إلى ولد... ربّما سيزول مع الوقت... أنتَ رجل طيّب أعطيتَني كل شيء... إلّا ما تريده نفسي بشدّة... المال لا يشتري السعادة... كانوا على حق...
وبالرغم مِن شدّة الوضع، لم أفكّر بتركه لأنّني لم أكن مستعدّة على التخلّي عن حياتي الجميلة والعودة إلى القلّة وقبلتُ ما كُتِب لي. ولكن بعد فترة جاء إلى الجمعيّة عصام مدير جديد كان قد نال إجماع كل أفراد مجلس الإدارة بسبب خبرته بإدارة الأعمال وعندما تعرّفتُ إليه وجدتُ أنّه إنسان جديّ وطموح، فوافقتُ عليه فوراً. وبدأنا العمل سويّاً لتطوير المركز وتنشيطه لنستوعب عدداً أكبر مِن الأولاد، فحضّر خطة عمل جريئة أعطَت ثمارها بسرعة. ومع الوقت وجدتُ نفسي أفكّر به وأنتظر اللحظة التي ستجمعني به.
حاولتُ طرده مِن رأسي ولكنّ شيئاً كان يشدّني إليه. ربّما كان سنّه القريب مِن سنّي أو عمله على مشروع عزيز على قلبي. وهكذا وقعتُ في حبّه سرّاً، لأنّني لم أفكّر ولو للحظة أن أخون زوجي رغم الحالة التي وصلنا إليها. وكان عصام معجباً بي أيضاً ونظراتنا لبعضنا لم تعد سريّة وبدأ طبعاً الناس بالتكلّم. ولكنّني كنتُ مرتاحة البال لأنّني لم أفعل شيئاً يسيء إلى سمعتي أو سمعة زوجي. ووصلَت الأخبار إلى توفيق الذي تردّد مطوّلاً بشأن التحدّث معي بالأمر. وبعد التفكير المليّ واجهَني بما سمعه:
- هل صحيح أنّكِ على علاقة مع ذلك المدير؟ أرجو مِنكِ أن تكوني صريحة معي فأنا لا أتحمّل الكذب.
- ليس هناك مِن علاقة بيننا... كن واثقاً مِن كلامي.
- ولكنّ الناس يقولون غير ذلك
- الناس يحبّون إختلاق الأكاذيب.
- دعيني إذاً اسألكِ سؤالاً آخراً: هل لديكِ أي شعور عاطفيّ تجاهه؟
سكتتُ مطوّلاً ثمّ قرّرتُ أن أكون معه بمِنتهى الصراحة كما طلَب مِنّي:
- أجل... ولكنّ الأمر يتوقّف عند هذا الحدّ، فهو لم يلمس حتى يدي... أنتَ تعلم أنّني بحاجة إلى حبّ وإلى ولد... ولكن لا داعي للخوف... لن ألطّخ سمعتنا، فأنا إمرأة واعية ومسؤولة.
وأنّهيتُ الحديث معه وذهبتُ إلى الغرفة. بقيَ توفيق وحده يفكّر بما يحدث له وفي تلك الليلة لم يأتي إلى الفراش قبل بذوغ الضوء. ومنذ ذلك النهار، شعرتُ أنّ زوجي أصبح بارداً معي ويتجنّب أن يتواجد معي في نفس المكان. لم أستطع لومه بعد أن علِمَ أنّ زوجته مغرمة بشخص آخر. وبعد مرور أشهر على هذه الحالة، قررتُ أن أضع النقاط على الحروف بالتحدّث مع توفيق لإيجاد حلّاً مِناسباً لوضعنا. ولكنّه سبقني عندما قال لي:
- فكّرتُ بالأمر مليّاً... ووجدتُ أنّني أظلمكِ بإبقاءكِ معي... فأنا أكبركِ بسنين عديدة ولا أستطيع الإنجاب، بينما ذلك الرجل مِن سنّكِ وفي صحة جيّدة... إن كنتِ تريدين ذلك فبإستطاعتكِ طلب الطلاق مِنّي وأعدكِ أن أترككِ ترحلين دون أن أفتعل المشاكل... أحبّكِ كثيراً وأنا مستعدّ أن أتألّم مِن دونكِ على أن أراكِ تعيسة معي...
- دعني أفكّر بالأمر.
وأخذتُ حقيبة وذهبتُ إلى بيتنا قرب البحر لأقرّر ما عليّ فعله. وفي هذه الأثناء، كان توفيق قد أدركَ أنّه لا يمكن أن يعيش مِن دوني لكثرة غرامه لي، فعندما عدتُ مِن خلوتي فاجأني بهذا الحديث:
- لا أريد أن أعرف جوابكِ... إسمعيني جيّداً ولا تجيبينني الآن... عندما كنتِ غائبة شعرتُ بالفراغ العميق وإمتلأ قلبي بالحزن وعلِمتُ حينها أنّني لا أستطيع العيش مِن دونكِ... إليكِ ما قررتُ... هذا الرجل الذي إسمه عصام... سألتُ عنه وعلمتُ أنّ أحواله الماديّة جدّ متوسّطة وأنا أعرف أنّكِ تحبّين حياة الرفاهيّة التي تعوّدتِ عليها معي... ولكن بإستطاعته إعطاءكِ الأولاد... إبقي معي وأنجبي مِنه!
- ماذا؟؟؟ هل فقدتَ عقلكَ!
- دعيني أكمل... أنا أعلم أنّه إذا أصبح لديكِ طفل، ستكونين سعيدة معي فأنا أؤمِّن لكِ جميع وسائل الراحة... ولا تنسي أنّني أحبّكِ كثيراً وأعاملكِ معاملة حسنة... أنجبي ولداً مِنه وسأربّيه وكأنّه مِنّي.
في البدء لم أتخايل أبداً أنّني قد أقبل هكذا عرض ولكن عندما جلستُ مع نفسي بدأَت تأخذ الأشياء صورة إيجابيّة أكثر. كان على حق فأنا لا أستطيع العودة إلى الحياة العاديّة بعدما ذقتُ طعم الرفاهيّة حتى لو كنتُ أحبّ عصام وإن كان زوجي يقبل بإبن غيره، فهذا ممتازاً. وبهذه الطريقة أكون قد حصلتُ على الولد والمال والحب في آن واحد. لم أقل الحقيقة لعصام، لأنّني كنتُ متأكّدة أنّه سيهرب مِنّي ومِن هذا الإتفاق الشاذ مع زوجي. كل ما فعلته كان إقامة علاقة جنسيّة معه وجعله يحلف لي أنّه لن يخبر أحداً. وبعد فترة شهرين وجدتُ نفسي حاملاً. عندها أخبرتُ عشيقي بأنّني سأقنع زوجي بأنّ الطفل مِنه وأنّ عليه أن يرحل بعيداً حتى لا يثير الشبهات. ولكي أشجّعه على الرحيل، وجدتُ له عملاً في الخارج لدى إحدى الجمعيات الأجنبيّة وودعّته. أمّا هو فكان سعيداً أن يبتعد عن هذه المشاكل، فهو لم يكن يحبّني كفاية لتحمّل المسؤولية. وولِدَ إبني وسعادتي كانت لا توصف. نسيتُ عصام ونسيتُ كل حزني. حضنه زوجي كما وعدني أن يفعل وعامله كأنّه إبنه الحقيقي وأصبحنا نحن الثلاثة عائلة متماسكة. وقررتُ ألّا أخبر إبني بالحقيقة ولماذا أفعل؟ أبوه البيولوجي لم يكن يريده وحتى لو فعل، لم يكن بإمكأنّه أن يقدّم له ما يعطيه إيّاه توفيق أيّ العلم والمال والمستقبل إلى جانب الحبّ الأبويّ القويّ.
لقد مضى على هذه القصّة عشر سنوات ولم نتكلّم زوجي وأنا ولو لمرة واحدة عن الذي حصل، لدرجة أنّني أعتقد فعلاً أنّ كلّ هذا كان حلماً مزعجاً لا أساس له.
حاورتها بولا جهشان