ـ " أخرجي مِن بيتي!"
كانت تلك آخر كلمة قالها لي سمير، زوجي، قبل أن يرميني خارجًا.
ولم يكن يعلم أيّ منّا آنذاك أنّني حامل. وعدتُ إلى بيت أهلي مكسورة الخاطر بعد أن تحمّلتُ لسنًتَين طويلتَين خيانات زوجي العديدة. والأبشع في الأمر أنّه كان يشكّ بي، مع أنّني لم أكن أبارح المنزل وأقضي وقتي بانتظار عودته مِن سهراته مع بنات الليل. وحين أكتشفتُ أنّني أحمل جنينه، أسرعتُ في أخباره كي لا يُباشر بدعوى الطلاق التي كان يُهدّدني بها منذ فترة. ولكنّه هزىء منّي:
ـ حامل؟ مِن مَن؟
ـ منكَ طبعًا! ما هذا السّؤال السخيف؟
ـ كيف ذلك وأنا لم ألمسكِ منذ فترة طويلة؟ فلم أعد أطيق حتى رائحتكِ!
ـ أنسيتَ تلك الليلة حين عدتَ ثملًا إلى البيت ومارستَ الجنس معي بشغف؟ خلتُ أنّكَ عدتَ تحبّني كالسابق، ولكن في الصباح وجدتُ أنّكَ لم تتغيرّ بل بقيتَ ذلك الرجل البغيض الذي لا يحترم أحدًا أو شيئاً.
ـ بالطبع لا أذكر... إسمعي... إن كنتِ تنوين إلصاق هذا المخلوق بي فلن تنجَحي بذلك... إذهبي إلى عشيقكِ ودعيني وشاني!
ـ أيّ عشيق؟ حرام عليك! لقد كرّستُ نفسي مِن أجلكَ ولم أسمع منكَ كلمة جميلة واحدة... إرحمني ولو مرّة!
ـ هذا الجنين ليس منّي، وما مِن شيء تستطيعين فعله لإقناعي بالعكس."
وانتهى الموضوع. وحاول أهلي إقناعه بالعدول عن قراره، طالبين منه أن يُسجّل على الأقل الولد بإسمه عندما يولد ولكنّه بقيَ يرفض. وكأنّ ذلك لم يكن كافيًا، إذ بدأ سمير بإطلاق شائعات حول أخلاقي ليُبرّر للجميع أنّه رجل مخدوع ولا يُمكنه الإعتراف بفعلة غيره.
ووُلد هشام، وذهبتُ إلى المحكمة وأخذتُ أمرًا بأن يُجرى فحص الحامض النوويّ لإثبات أبوّة سمير، ولكنّه هربَ إلى الخارج كي لا يُعطي عينّة للمختبر.
وانتهى كلّ شيء، وقرّرتُ أن أطوي تلك الصفحة المؤلمة مِن حياتي، وأنشئ هشام بدون مساعدة أبيه. لِذا وجدتُ عملًا في محلّ ألبسة بينما كانت أمّي تهتمّ بطفلي أثناء غيابي. وبالطبع، إتفقنا ألاّ نخبر إبني بأنّ أبوه تخلّى عنه بعدما رفض الإعتراف به، واختلقنا قصّة أخرى تقول إنّ سمير قضى بحادث سيّارة قبل ولادته بقليل.
كنتُ أعلم أنّ يومًا سيأتي ويعلم إبني أنّه مكتوم القيد، أي أنّ لا إسم أب له، لذا قرّرتُ أنّ أجنّبه العار بعدم إرساله إلى المدرسة وأن أدرّسه بنفسي، إلى أن أجد طريقة لتسوية أوضاعه. ونصَحَني أخي بأن أتزوّج مِن جديد، وأن أقنع زوجي بِتبّنّي هشام وتسجيله باسمه، فارتأيتُ أنّ تلك أفضل طريقة ليحظى المسكين بمستقبل كريم. ولكنّ إيجاد الشخص المناسب لم يكن سهلًا بل شبه مستحيل، فمَن سيَرضى أن يقوم بخطوة كهذه؟
وواصلتُ حياتي على أمل أن ألتقي بالرجل الشهم الذي أحلم به. وبعد حوالي الأربع سنوات، إلتقيتُ بمازن، شاب طيّب ومستقيم بعيد كلّ البعد عن أخلاق سمير. وكنتُ أتوق إلى الإستقرار مع إنسان متوازن يُشاركني حياتي ويهتمّ بإبني ويُعطيه صورة حسنة عن الأب والرّجولة. ولكنّني لم أكن أعلم إن كان مازن مستعدًّا لتبنّي هشام، فبالرّغم أنّه تعرّف إليه وأحبّه، فقد كانت تلك خطوة لا يُستهان بها. وعندما أعرَبَ مازن عن رغبته الجديّة بالإرتباط بي، صارحتُه بما أريد منه:
ـ ٍاسمع يا مازن... لقد توصّلتُ إلى أن أحبّكَ ولكنّني لن أكذب عليكَ... لن أفضّلكَ يومًا على إبني الذي هو قطعة منّي.
ـ أفهم ذلك تمامًا... سأحبّه وكأنّه إبني.
ـ هذا ما كنتُ أنوي قوله لكَ... هو ليس إبنكَ ولن يكون كذلك حتى يحمل إسمك... لن أبقيه مكتوم القيد مدى الحياة.
ـ ماذا تعنين؟ ألا يحمل إسم أبيه؟
ـ للأسف لا... السّافل فضّل الهرب على أن يخضع لفحص الحمض النوويّ... لم يُفكّر ولو لثانية بابنه... رحل بكلّ بساطة.
ـ ما تطلبينه منّي ليس سهلًا... صحيح أنّني أتقبّل فكرة تربيته مع الأولاد الذين سننجبهم ولكن أن أتبنّاه...
ـ فكّر بالأمر... ولكن لا تغضب منّي إن رفضتُ الزواج منكَ في حال لم تقبل إعطاءه إسمكَ... كما قلت لكَ، لن أحبّكَ على حسابه."
للحقيقة خلتُ أنّني لن أرى مازن مجدّدًا، وكنتُ سأتفهّم قراره. وكم كانت فرحتي كبيرة عندما دقّ مازن باب منزل أهلي بعد أسبوع، وقال لي عندما فتحتُ له:
ـ أين إبني؟"
وتعانقنا مطوّلًا، وعلمتُ أنّني وجدتُ أخيرًا السعادة.
وحملَ هشام إسم عائلة مازن، وأنجبنا إبنة جميلة... واكتملَت حياتي.
ولكنّ القدر لم يكن قد أنهى مهمّته بعد. فبعد أن مرّ حوالي الثلاث سنوات على زواجي الثاني، وحين كنتُ مع إبني نتسوّق، وقعتُ وجهًا لوجه مع سمير. وقفتُ أنظر إليه بدهشة، لأنّني لم أتوقّع أبدًا أن أراه مجدّدًا لأنّه كان يعيش في الغربة. هو الآخر تفاجأ بي، وخاصة بهشام، لأنّه كان نسخة مطابقة له. وبعد ثوان طويلة، قال لي سمير:
ـ ما اسمه؟
ـ هشام.
ـ يُشبهني كثيرًا عندما كنتُ في سنّه.
ـ يخلق مِن الشبه أربعون.
ـ لا! أنا متأكّد من أنّه يُشبهني أنا! لم تكذبي عليّ... كنتِ تقولين الحقيقة... هو...
ـ أبوه مات في حادث سيّارة قبل أن يولد بقليل... ولحسن حظّه أنّه أصبح له أبٌ آخر... رجل شهم قام بتبنّيه واعطائه إسمه."
وطلبتُ مِن إبني أن يذهب إلى البيت كي لا يسمع حديثًا قد يخرب حياته. وعندما غاب هشام عن عينيّ، قلتُ لسمير بلهجة لا تتحمّل المناقشة:
ـ إسمع يا... أستاذ... لن اسمح لكَ بتدمير ما بنَيتُه.
ـ هو إبني... أنا أبوه.
ـ أنتَ لا أحد! أنتَ رجل سخيف وخفيف ولا يجدر بكَ أن تكون أبًا لأحد! تركتنا وأختفَيت! تهرّبتَ مِن واجباتكَ ولم تفكّر بالعار الذي سيلحق بابنكَ! والآن تريد أن تمارس أبوّتكَ بعد أن كبر الولد ووجد صورة الأب المناسبة؟
ـ ليس لديّ اولاد... ليس لديّ ذريّة... مَن سيحمل إسمي؟
ـ إسمكَ ليس مهمًّا كي يحمله أحد... إسم زير نساء وسكيّر وجبان... مَن سيُريد حمل هكذا اسم؟
ـ لقد تغيرّتُ... عندما سافرتُ وابتعدتُ عن معشري السيّء، عشتُ حياة مستقيمة... أرجوكِ...
ـ إرحل ولا تعُد... إنسَ أنّكَ رأيتَ هشام... إن كان لدَيكَ ذرّة أخلاق، عليكَ المحافظة على مستقبله وسعادته... إفعل شيئًا إيجابيًّا واحدًا في حياتكَ وارحل."
نظَرَ سمير إليّ بحزن ورحل. خفتُ كثيرًا أن يُلاحق هشام ويُحاول استرداده ولكنّه لم يفعل. كان قد فهم أخيرًا أنّ على الإنسان أن يُضحّي مِن أجل أولاده، فهذه هي الأبوّة.
حاورتها بولا جهشان