إجتهَدتُ سنوات لنَيل تلك الترقية، ولَم أخفِ عن أحَد مدى فرَحي واعتزازي بنفسي، فكنتُ أستحقّ ذلك المنصب، ليس برأيي وحسب لكن أيضًا برأي أعضاء مجلس إدارة الشركة الذين صوّتوا لي جميعهم. وهكذا وجدتُ نفسي في منصب مُديرة فرعنا، وكنتُ أعلَم أنّ تلك الترقية تتضمّن مجهودًا كبيرًا وسهَر الليالي. مِن حسن حظّي أنّني لَم أكن مُتزوّجة، فكيف لي أن أوفِّق بين هكذا عمَل وعائلة؟ على كلّ الأحوال، لَم أعطِ يومًا أهمّيّة كبرى لحياتي العاطفيّة، فحدَث أن التقَيتُ بشبّان مرّة أو اثنتَين، قَبل أن أتعرَّف إلى خطيبي السابق الذي تركَني مِن أجل فتاة أخرى. ومنذ ذلك الحين، وضعتُ جانبًا الحبّ وتوابعه، وعزَمتُ على بناء مُستقبل مهنيّ لامِع لنفسي، فذلك كان يُعطيني فرَحًا أكبَر وشعورًا بالأمان لن يوفِّره لي أحَد يومًا. مِن حسن حظّي أن كان لدَيّ زملاء وموظّفون أوفياء لي ونعمَل سويًّا لخَير الشركة وكأنّنا شخص واحِد، فذلك كان يُسهِّل عليّ كثيرًا عمَلي الجديد.
لكن حدَثَ أن توفِّيَت سكرتيرتي العزيزة بسبب داء خبيث أخذَها بسرعة، الأمر الذي قصَّرَ مِن عذابها. فكّرتُ باستبدالها بأحَد الموجودين معي، لكن كان لكلّ منهم مُهمّته الخاصّة، فاتّجهتُ نحو الخارج بوضع إعلان على صفحات الانترنت المُختصّة بتوفير الموظّفين. كانت مواصفات تلك السكرتيرة مُحدّدة جدًّا وصعبة، فلَم أرِد أيًّا كان، بل العكس، أرَدتُ الأفضل!
وصلَتني طلبات ترشيح عديدة أعجبَتني بعضها، لكنّ اختياري وقَعَ على صبيّة لَم تُرسِل ترشيحها عبر البريد الإلكترونيّ... بل أحضرَته شخصيًّا! فتمارا، وهذا اسمها، آتَت إلى الشركة حامِلةً سيرتها الذاتيّة، وطالبةً رؤية المسؤول عن الموارِد الانسانيّة الذي صدَّها قائلًا إنّ الطلبات لا تُقبَل إلّا بواسطة البريد الالكترونيّ. لكن حدَثَ أنّني كنتُ مارّة قرب مكتبه، فدخلتُه مُستفسِرة.
شرَحَت لي الصبيّة ما يجري، مُضيفةً: "أرَدتُ أن أتكلّم مُباشرةً معكم لتعرفوا أنّني مُناسِبة لهذه الوظيفة، فالسيرة الذاتيّة لوحدها لا تُبيّن قدرات الشخص الفعليّة. فلستُ إنسانة عاديّة لتختلِط ورقتها مع الأوراق الأخرى". إبتسَمتُ لهذا القدَر مِن الثقة بالنفس وأجبتُها: "حسنًا يا آنسة، لدَيكِ أسبوع واحِد لتثبتي لي أنّكِ مَن أبحثُ عنها". بدأَت تمارا العمَل على الفور، ولمدّة أسبوع تسنّى لي أن أرى أنّها بالفعل مُميّزة بقدرتها على التأقلم والتعلّم السريع. فهي أثبتَت أنّها تُعطي أهمّيّة للتفاصيل، وتُلاحِق عمَلها حتى الآخِر، لِذا أبقَيتُها في وظيفتها.
وسرعان ما صارَت تمارا ذراعي الأيمَن، لأنّني استطعتُ الاتّكال عليها بأمور كثيرة وأعلَم أنّه ستنجزها على أكمَل وجه. لكنّ هذا الأمر أزعَجَ باقي فريقي، فهم شعَروا أنّهم وُضِعوا جانبًا، خاصّة أنّني كنتُ أستشيرُهم قَبل مجيء تمارا وآخذُ برأيهم. لَم أنتبِه للأمر، لكثرة انشغالي بمنصبي وما ينتجُ عنه مِن مسؤوليّات.
الامتعاض مِن تمارا بدأ يكبر يوم بعد يوم، لدرجة أنّ المسؤول عن الموارِد الانسانيّة اشتكى لدَيّ عن تأثير سكرتيرتي على أداء باقي الفريق، فسألتُه:
ـ وهل هي فعلَت شيئًا لهم؟
ـ ليس مُباشرةً.
ـ إذًا كيف لي أن أطلبَ منها التوقّف عن فعل شيء هي لا تفعله؟
ـ هم مُنزعجون منها وحسب.
ـ كلامكَ ليس منطقيًّا.
ـ هذا ليس كلامي بل كلام الموظّفين.
ـ إن كانت تمارا تقومُ بعمَلها على أكمَل وجه ولا تُزعِجُ أحَدًا مُباشرةُ، فلا أرى داعٍ لأتدخَّل.
ـ قد تفقدين أفراد فريقكِ.
ـ أفقِدُ أشخاص قد يتوقّفون عن القيام بمهامهم بسبب غيرتهم مِن إنسانة لَم تؤذِهم؟ صراحة، لا أُبالي أبدًا للأمر!
إستأتُ كثيرًا مِن موقِف الموظّفين الذين انشغلوا بسكرتيرتي بدَلًا مِن عمَلهم، لِذا حين أخبرَني أحَدهم بأنّه وجَدَ عمَلًا في شركة أخرى وقدَّمَ استقالته لي، لَم آسَف كثيرًا عليه، بالرّغم مِن أنّه كان عنصرًا مُهمًّا في الفريق. ساعدَتني تمارا بسرعة على إيجاد بديل للّذي ترَكَ الشركة، فأتَت بأحَد أقاربها الذي كان ذا سيرة ذاتيّة مُذهِلة. لكن استبدالي السريع لذلك الموظّف، لَم يرُق لباقي الفريق الذين شعَروا بأنّني لا أُبالي حقًّا برأيهم، في حين كان هدَفي ألّا تؤثِّر تلك الاستقالة على سَير العمَل.
تبيَّنَ على مرّ الأيّام، أنّ الموظّف الجديد كان بالفعل كفؤًا، فسُرِرتُ باختيار تمارا التي كانت تثبتُ لي يومًا بعد يوم أنّها عنصر مُهمّ في الشركة. بعد حين، قدَّمَ موظّف آخَر استقالته، فتعجَّبتُ كثيرًا وسألتُه لماذا يُريدُ الرحيل، فأجابَني أنّه وجَدَ وظيفة أخرى تُشبِهُ طموحاته أكثر. وكما في المرّة الأولى، أتَت لي تمارا ببديل له، وكان أيضًا كفؤًا.
وفي غضون سنة، إختفى فريق عمَلي القديم بأكمله تقريبًا، ووجدتُ نفسي أعمَل وسط غرباء. شعرتُ بالفرق، ليس مِن الناحية العمليّة، بل مِن جهّة الروحيّة التي اتّسَمَ بها فريق القديم. أطلَعتُ تمارا عن شعوري هذا، وهي طمأنَتني قائلة إنّني سأعتادُ على فريقي الجديد ويُصبح تمامًا كالقديم.
لكن ما لَم أحسب حسابه، هو أنّ كلّ الموجودين أتوا مِن مصدر واحِد، وهو تمارا، الأمر الذي أعطاها تأثيرًا عليهم، إمّا مُباشَر أو فقط لأنّها تمكّنَت مِن تأمين وظيفة لهم وصاروا مُمتنّين لها. وهكذا، هي باتَت بمثابة مُديرة عليهم، الأمر الذي لاحظتُه مِن دون أن أُعطيه أهمّيّة كبيرة.
وذات يوم، زارَنا أحَد أعضاء مجلس الإدارة، وهو رجُل لَم أرَه في حياتي، وطلَبَ أن يتحدَّث مع الموظّفين على إنفراد. إستغرَبتُ الأمر لكنّني لَم أرَ أبعاده، فظنَنتُ أنّها زيارة مُخصّصة للموظّفين وحدهم. ولَم تمرّ بضعة أيّام حتى تمّ استدعائي إلى المقرّ العام للشركة ليُقال لي إنّني مطرودة بسبب عدَم قدرتي على إدارة الفرع، بعد أن أشتكى عليّ الموظّفون لأنّني أُعامِلهم بطريقة سيّئة، وأتنمَّر عليهم وأُبقيهم في الفرع للعمَل ساعات إضافيّة مِن دون مُقابل، وأشياء مُماثِلة.
لَم أُصدِّق ما سمعتُه وأنكَرتُ طبعًا تلك التهَم الشنيعة، إلّا أنّ كلمتي لَم تزِن ثقيلًا مُقابِل كلمة غالبيّة الموظّفين. كان قرار طردي نهائيًّا، فأخذتُ كل أغراضي مِن مكتبي ورحَلتُ. بكَت تمارا كثيرًا وعانقَتني وقبّلَتني... وأسرعَت بِجَلب خطيبها ليأخذ مكاني! علِمتُ بالأمر حين وصلَني بريد الكترونيّ بالخطأ يحملُ إسم وتوقيع المدير الجديد، فسألتُ مِن حولي عن ذلك الشخص وفهمتُ اللعبة. فهمتُ ما فعلَته تمارا يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر. لَم أعرِف إن كانت هي قد خطّطَت للأمر منذ البدء، لكنّني أعتقِد أنّ الفكرة نمَت في بالها يوم استقالَ أوّل موظّف مِن فريقي القديم، وهي استطاعَت تأمين مَن يحلّ مكانه.
أسرَعتُ بالاتّصال بموظّفيّ القديمين والاعتذار منهم، فالذنب كان ذنبي لأنّني فضَّلتُ غريبة على مَن عرفتُهم منذ سنوات. هم قبِلوا اعتذاري ولاموني، لأنّ كان بيننا تناغُم مِن الصعب إيجاده، وأنا قضَيتُ عليه.
مكَثتُ في البيت لمدّة أشهر مِن دون عمَل، لأنّني كنتُ مُحبَطة لأقصى درجة بعد أن خسرتُ وظيفتي، واختفى الحلم الذي ركضتُ وراءه لأُحقِّقه. ثمّ انتابَني الغضب، مِن نفسي أوّلًا لأنّني لَم أرَ الدّلائل ولَم أسمَع التنبيهات، وأيضًا مِن تمارا التي تبيّنَ أنّها أفعى بكلّ ما للكلمة مِن معنى.
وجدتُ وظيفة أخرى بسبب خبرتي الطويلة، لكنّني لَم أكن سعيدة بذلك العمَل، إلّا أنّني كنتُ بحاجة إلى المال لأعيش بكرامة.
وأكثر ما آلَمَني، هو أنّ تمارا وكلّ الذين أتَت بهم إلى الشركة، لا يزالون يعمَلون بها ويتلقّون التهاني والترقيات، بينما خسِرتُ كلّ شيء. أعلَم أنّني السبب بالذي حصَلَ لي، لكن لو كانت تمارا إنسانة مُخلِصة وطيّبة، لمَا خطّطَت و"شلّتها" لطردي يوم اشتكوا عليّ وألّفوا الأكاذيب حولي. على كلّ الأحوال، لقد تعلّمتُ الدّرس، والثمَن كان بالفعل غاليًا!
حاورتها بولا جهشان