ولدتُ كباقي البنات لا يفرّقني عنهنّ شيء وخاب ظنّ والدي الذي كان ينتظر ولداً بفارغ الصبر خصوصاً بعد ما أنجَبتْ له أمّي ثلاث بنات حتى أنّه عند سماع الخبر خرج من المستشفى وذهب ليلاقي عشيقته. فأبي لم يكن رجلاً وفياً ولم يكن يخجل من نفسه فبرأيه للرجل حقوق كثيرة منها إقامة علاقات غراميّة خارج الزواج. فالرجولة بالنسبة له مهمّة جدّاً ولها مقاييس معيّنة.
عانت أمّي الكثير منه وكنّا جميعاً على علم بذلك وكنّا نقف متفرجّين بينما كانت تُهان وتُذلّ. وبما أنّ لم يشأ القدر أن يُرزِقه صبيّ قرّر والدي أن يخلقَ مني واحد ليكسر هذه الحلقة النسائيّة التي تحيط به وتلقين مبادئ الرجولة لأحد من عائلته.
فبدأ يأخذني أينما ذهب ويعلّمني لعبة كرة القدم والملاكمة ويُجبر أمي على قص شعري وأن تُلبسني ثياب صبيان.
وسرعان ما أصبح الناس يظنّون أنني صبي وينادوني بالإسم الذي إختاره لي أبي: "باسم" بدلاً من إسمي الحقيقي: "باسمة".
كبرتُ ومع مرور الأيّام نسيتُ من أنا وتعوّدتُ على هويّتّي المبتكرة وعندما أصبحتُ مراهقة تبحثُ عن أحدٍ تحبّه لم أعرف إن كان عليّ إختيار شاباً أم فتاةً؟
وأمام هذه الحيرة فضّلتُ أن أنسى الموضوع متأملّة أن يتوضّح الأمر مع الوقت. ولكن حدثَ شيء غريب:
بدأت الفتيات تنجذب إليّ بشكل ملحوظ بسبب مظهري وتصرفاتي الرجوليّة فمِن الخارج لم يكن بإستطاعة أحد أن يعرف أنني فتاة من الداخل. وهذا الإعجاب أربكني فلم أشعر تجاههن بشيء. ومن جهة أخرى كان الشباب يتفادوني لكي لا يظن أحد أنّهم مثليّون.
كان رفاقي في المدرسة يسخرون مني طوال الوقت خصوصاً عندما يناديني الأستاذ إلى اللوح "باسمة حلّيّ لنا هذه المسألة الحسابيّة" فيصرخ أحد: "باسم يا أستاذ... باسم... ألا ترى تلك المشية والأكتاف العريضة؟" وكنتُ أضطّر إلى ضربهم في الملعب لكي يتركوني بسلام.
وفي هذه الأثناء كانت العلاقة بين أمّي وأبي قد ساءت كثيراً فبدأ بضربها بشكل منتظم ربما لأنه سئم منها ومن توبيخاتها بشأن خياناته. حاولتُ أن أتكلّم معه وإقناعه بتركها بسلام ولكنه كان يُجيبني: "النساء يلزمها أن تُضرب فجنسهنّ ماكر وسخيف... نحنُ يا إبني صنفٌ راقي ومتطوّر". لم أكن أحبّ تصرّفاته ولكن بنفس الوقت كنتُ أرى فيه رمزاً أطمح لأن أصبح مثله وهذا ما حصل في ليلة عدتُ فيها إلى البيت في وقت متأخرّ فسألتني أختي الكبرى أين كنتُ وإذ بي أرفع يدي لأصفعها قائلة: "من أنتِ لتحاسبينني يا إمرأة؟". ولكن قبل أن تقع الصفعة على وجهها بثانية واحدة أدركتُ أنني أصبحتُ كأبي تماماً. فتراجعتُ وإعتذرتُ منها بحرارة وذهبتُ أختبئ في غرفتي أفكرّ بما فعله بي أبي وكيف حوّل هويّتي وجنسي ليجعل منيّ خليفة له وكيف بدأتُ أُعيد نفس التصرّفات التي كرهتُها فيه. وفي تلك اللحظة أدركتُ فظاعة الأمر وتوجهّتُ إلى خزانة أخواتي وإخترتُ لِنفسي فستاناً وحذاءً نسائي ووضعتُ أحمر للشفاه ووقفتُ أمام المرآة. في البدء لم أُطق مظهري وكِدتُ أخلع هذه الثياب وأعود إلى البنطلون ولكنني قلتُ لنفسي أنني لن أتراجع وأدعه ينتصر عليّ. كان قد حان الوقت لكي أصحّح الخطأ الذي كنتُ أنا وغيري ضحيّته.
وعاد أبي من عمله في المساء وكعادته نداني لآكل معه فبمفهومه الرجال يأكلون قبل النساء. دخلتُ غرفة الطعام وأنا ما زلت ألبس الفستان. رآني وكاد أن يختنق لقوّة إندهاشه:
- ما هذا يا باسم؟ هل أنتَ ذاهب إلى حفلة تنكريّة؟
- إسمي باسمة وهذا لباسي من الآن فصاعداَ.
- من المؤكدّ أنَّكَ تمزح.
- وسأطلبُ منكَ أن تتكلّم معي بصيغة المؤنث فأنا لست صبياً.
- كيف تجرؤ على مخاطبتي هكذا؟ أنا أبوكَ وأفعل ما أشاء بكَ!
- صحيح أنّكَ أبي ولكنك لستَ أباً صالحاً.
وهجم عليّ محاولاً ضربي ولكنني مسكتُ ذراعه قائلة:
- ولن أسمح لكَ أن تلمسني أو تلمس أحداً منّا. لقد علّمتني الملاكمة ولن أتردّد أن أستعملها معكَ إن فعلتَ. أنا لستً رجلاً بل إمرأة لها قوّة وتصميم رجل وهذا مزيج خطر لا أنصحَكَ أن تجرّبه. كفى تمادياً على من أضعف منكَ فهذه ليست رجولة. فالرجولة الحقيقيّة هي أن تحمي عائلتكَ من أي ضرر أو خطر خارجي وأن تمنحهم الأمان. عشنا معكَ بخوف مستمرّ نُلبّي طلباتَكَ لا لأننا نحبّك ونحترمكَ بل لأننا نخشاكَ. حاولتَ قلب ما خلقه اللّه بجعلي ذكراً بدل الأنثى لإرضاء غرورِكَ.
نظرَ إليّ بتعجّب ووضع يده على قلبه:
- تريد قتلي؟
- كل إنسان يذهب في وقته. إن كانت قد دقَّت ساعتكَ الآن فلن يحزن عليكَ أحد. أنصحكَ بتغيير أسلوبكَ إن أردتَ ألاّ تعيش آخر أيّامكّ لوحدكَ.
وفهمَ أبي الرسالة خاصة بعدما فقدَ آخر حليف له.
أمّا أنا فتعذّبتُ في إسترجاع هويّتي كأنثى فكان عليّ أن أتعلّم كل شيء من جديد. والأغرب ما في الأمر أنني بعد بضعة سنين إلتقيتُ صدفةً بزميل لي في المدرسة إعترف لي أنّه في ذلك الحين كان مغرماً بي ولكنّه لم يجرؤ على الإفصاح بحبّه لي خوفاً منّي ومن ردّة فعل باقي التلامذة. واليوم هو أب أولادي الثلاثة وزوج رائع.
حاورتها بولا جهشان