قبل زواجي مِن هُدى، لم أكن أنزعج مِن أنّ إبن خالتها لم يكن يفارقها أبداً، لأنّني إعتبَرتُ ذلك طبيعيّاَ. ولكنّ الناس زرعَت في عقلي الشكّ وبدأتُ أرى الأمور مِن زاوية مختلفة.
كان عُمر شاباً جذّاباً وأعزباً، وبِما أنّ أهله يُعدّون مِن الأغنياء، فلَم يحتاج يوماً لأن يعمل وكان يقضي وقته مع هُدى قريبته المفضّلة. وبعد أن إحتفلنا بزفافنا واستقرّينا في شقّتنا، كان يأتي أثناء غيابي ويقضي معظم نهاره معها. وفي تلك الفترة كنتُ مطمئنّاً على زوجتي وأّذهب إلى عملي مرتاح البال أنّها ليست لِوحدها إلى حين لاحظتُ نظرات الناطور وإبتسامته حين كنتُ أعود ويقول لي :"كان السيدّ عُمر هنا ...ككلّ يوم ...ورحلَ قبل دقائق ...ككلّ يوم ..." وكذلك البقّال وسائر الناس التي تراني دائماً. ولكنّ إنزعاجي الفعلي بدأ مع حديث جرى بيني وبين والدتي . ففي ذات يوم وأثناء زيارتي لها قالت لي:
- حبيبي... أريد أن أقول لكَ شيئاً ...تعرفُنني جيّداً فأنا لا أحبّ التدخّل بشؤونك الخاصِة ولكن...
- ما الأمر يا أميّ... أراكِ مهمومة... تستطيعين قول أيّ شيء أمامي ...
- حسناً... هذا الشاب الذي يدُعى عُمر ...
- ما به؟ هل حصلَ له مكروهاً؟
- لا... ولكنهّ لا يبارح بيتَكَ... وزوجتَكَ
- إنه إبن خالتها... يعرفان بعضهما منذ ما كانا أطفالاً
- أجل ولكنّه قبل كل شيء رجل وهي إمرأة ولا يجوز أن يأتي بغيابكَ ويبقى معها لِوحده ... قد تحصل أشياء بينهما...
- هذا غير ممكن، فهو بمثابة أخٍ لها... تحبّه كثيراً ولكن ليس كما تتصوّرين.
- كيف تستطيع جزم ذلكَ وأنتَ لست معهما؟ أنا لا أقول أنهّ مِن المؤكدّ أنّهما على علاقة ولكنّ الناس بدأت تتكلّم عنَكَ وعن ثقتَكَ العمياء... والبعض يهزأ منكَ.
وخرجتُ مِن عند والدتي ورأسي مليء بالتساؤلات وعندما وصلتُ المنزل وقالتَ لي هُدى أنّ عُمر كان لِتوّه هناك، صرختُ بها:
- هذا لايهمّني! عُمر لايهمّني وأخباركِ مع عُمر لاتهمّني!
نظرَت إليّ زوجتي بِتعجّب ودخلَت الغرفة دون أن تجيب، معتبره انّ نهاري في العمل كان شاقاً وأنّ ردّة فعلي كانت بسبب الإرهاق. ولكن المسكينة لم تكن تدري أنّها كانت بداية سلسلة ردّات فعل ستؤدي إلى كارثة لم يتخيّل ايّ منّا أنّها قد تحصل. فمِن الرجل الطيّب والمتفهّم والمنفتح، تحوّلتُ يوماً بعد يوم إلى إنسان غيورٍ وقاسٍ ولم تعد هُدى ترى فيّ الحبيب الذي قبِلَت أن تتزوّجه.
في البدء، أبديتُ إنزعاجي مِن مجيء عُمر إلى بيتنا ولكننيّ لم أستطع أن أشرحَ لها لماذا لم أعد أطيق حتى الحديث عنه. وعندما رأيتُ أنّ ذلك الشاب بقيَ يأتي، رفعتُ اللهجة وهدّدتُ بإفتعال المشاكل إن علمتُ إنّ قدمَه وطأت بيتي في غيابي.عندها منعَت هُدى إبن خالتها مِن زيارتها وأصبحا يتلاقان خارجأ ليذهبا للتسوّق أو الجلوس في المقهى. ولم أعلم بِتلك اللقاءات إلاّ لاحقاً مِن زميل لي كان قد رآهما سويّاً. وعندما سمعتُه يقول لي:"هذا الرجل يرافق زوجتَكَ أينما ذهبَت ويحمل لها أكياس التسوّق...ألا يزعجُكَ ذلك؟"، إنتابَني غضب كبير وتركتُ عملي على الفور وعدتُ إلى المنزل لأصبّ غيظي على الخائنة. وبالطبع دافعَت عن نفسها وعن إبن خالتها ونعَتتني بالمجنون وأضاَفت:
- ما بالكَ تغيّرتَ إلى هذا الحدّ؟ ما حصلَ للرجل اللطيف المتسامح الذي وقعتُ بِحبّه؟ عُمر هو بمثابة أخي وأنتَ تعلم ذلكَ...ما لخطب في أن نقضي وقتنا سويّاً؟ هل أهمِل واجباتي المنزليّة أو الزوجيّة بِسببه؟ أم تريدني أن أنظر إلى الجدران طوال اليوم؟ كان لي عملاً قبل أن نتزوّج وكنتُ أرى الناس وأختلط بهم وطلبتَ منيّ أن أترك وظيفتي مِن أجلَكَ وقبلتُ معكَ... ولكننيّ الآن نادمة على ذلك ...لا أدري مِن أين أتَت تلك الشكوك ولكنّ لا أساس لها ويجدر بَكَ أن تعرفَ ذلك...لقد خابَ ظنيّ بكَ.
وأخذَت هُدى حقيبة وملأتها بِبعض حاجاتها ورحَلَت إلى منزل أهلها. ولِشدّة غضبي، صرختُ:
- مع السلامة ! ولاتفكرّي بالعودة، فأنا لا أريد زوجة خائنة في منزلي!
وبالطبع لم أكن أعني ما قلتُه لأنّني وفي قرارة نفسي، لم أكن أشَكّ في وفاء زوجتي لي ولكن نظرات وكلام الناس خلقَت ضغطاً كبيراً عليّ وأجبَرَتي على إتخّاذ موقفاً لم يكن نابعاً منيّ، بل منهم. وبدلاً أن ألومَ نفسي على الذي حصل، أشَرتُ بأصبع الإتّهام إلى عُمر الذي إعتبرتُه مسؤولاً عن رحيل زوجتي وعن تعاستي وهمومي جميعاً ولم أعد أفكرّ سوى بالطريقة التي ستبعدُه عنيّ وعنها وعن بيتنا. فقصدتُه عند أهله وقلتُ له مهدّداً:
- إسمعني أيّها العاشق المتيّم...هُدى لي أنا وحدي ولن تكون لَكَ أبداً...
- ومَن قالَ لَكَ أننّي أريدها؟ هي بمثابة شقيقتي.
- وهل تخالني ساذجاً لهذه الدرجة؟ سأقولها لَكَ مرّة واحدة: إبتعد عن زوجتي وإلاّ...
- وإلاّ ماذا؟ مالذي ستفعله؟
ولم أجاوبه وإكتفيتُ بالرحيل وسطَ نظرات الإستنكار التي حاوطّتني مِن قِبَل عائلة عُمر.
وبما أنّني لم أشعر أننيّ كنتُ واضحاً كفاية معه، فعلتُ ما لم أتصوّر فعله أبداً، فلطالما كنتُ إنساناً مهذّباً وخلوقاً ومسالماً ولكن الغيرة والعنفوان أعمَتني. فإنتظرتُ أراقب عُمر ولحِقتُ به ورأيتُه يدخل منزل أهل هُدى حيثُ كانت قد إلتجأت بعدما تركَتني. وتخيّلتهما يضحكان سويّاً وهو يخبرها عن زيارتي له والحديث الذي دارَ بيننا فبدأ دمي يغلي في داخلي وعندما خرجَ مِن عندها، إنقضّيتُ عليه وأخذتُ أضربه بوحشيّة غريبة. أمّا هو فلَم يدافع عن نفسه لِكثرة تفاجئه. وسقطَ أرضاً فاقدَ الوعي. عندها أدركتُ الذي فعلتُه، فأخذتُه فوراً إلى المستشفى وسلّمتُ نفسي إلى الشرطة التي أتصلَت بذويه. ودخلتُ السجن لأنّ المسكين كان قد وقعَ بغيبوبة ولم تكن حالته تبوء بالتفاؤل.
وبعد أيّام، جاءَت هُدى لتزورني وعندما رأيتُها، شعرتُ بخزية عميقة وتوسّلتُ إليها لكي تسامحني. نظرَت إليّ بإشمئزاز وقالت:
- عليك طلب ذلك مِن عُمر ومِن أهله الذين ينتظرون أن يفيق مِن الغيبوية التي سببتَها له مِن جّراء صغر عقلَكَ... لقد دمّرتَ حياته وحياة مَن هم حواليَكَ...دمّرتَ زواجنا ودمّرتَ نفسَكَ... ها أنتَ في السجن مع المجرمين والسارقين... ما الذي حصلَ لَكَ؟ كيف تفقد ثقتكَ بي بهذه السرعة؟ كيف تفقد كيانَكَ هكذا مِن دون سبب وجيه فقط لأنّ الناس أرادوا منكَ أن تأخذَ موقفاً... وهؤلاء الناس أين هم الآن؟ لاأرى أيّ منهم إلى جانبكَ هنا...
- كان يأتي عُمر ويجلس معكِ طوال النهار... فإعتقدتُ...
- ماذا؟ ما الذي إعتقدتَه؟ لو تمعّنتَ بالنظر إليه ولو تكبدّتَ عناء معرفته جيدّاً للاحظتَ أنّه لايهوى النساء بل الرجال.
- أتعنينن أنهّ مُثلي؟
- نعم...لقد دمّرتَ حياة إنسان بريء وشوّهتَ سمعة زوجة وفيّة... إدعي الآن الله أن يشفيه وإلا ستصبح مجرماً بشعاً كباقي المجرمين.
وكان القدر إلى جانبي، لأنّ عُمر خرجَ أخيراً مِن غيبوبتِه وأنا مِن سجني بعدما قضيتُ أشهر طويلة وراء القضبان. وفور إطلاق سراحي، ركضتُ إليه أطلب الغفران. ولِكثرة طيبَته، قَبِلَ ذلك الشاب أن يسامحَني وحتى أن يتوسّت لي لدى زوجتي. وبعد تفاوضات طويلة، وافقَت هُدى أن تعطيني الفرصة لأثبتَ لها أنّني جدير بها بعدما أقسمتُ لها بأنّني لن أتأثّرَ بعد ذلك بِكلام الناس.
حاورته بولا جهشان