هل أنا ساذجة أم أنَّ الطيبة والاخلاق الحسنة توقع صاحبها في مخالب الشرِّرين؟ والوحش الذي أوقَعَ بي وهَدَرَ أيامي ليس سوى زوجي فراس، الذي أحبَبتُه أكثر مِن أيّ انسان آخر وأعطَيتُه كلّ ما لدَيَّ.
تعرَّفتُ إليه في شركة أبي حيث كان يعمل، وأحبَبتُه على الفور لأنّه كان وسيمًا ويعرف كيف يتكلّم مع النساء. لَم يُمانع والدي لأنّه رأى بفراس شابًّا طموحًا قد يُصلح لاحقًا لأخذ مكانه في إدارة الشركة.
المشكلة بدأَت بعد زواجنا بحوالي السّنة، حين وجَدتُ نفسي غير قادرة على الحمل. كنّا قد صبرنا طيلة تلك المدّة على أمل أنّ يحدث الحمل مِن تلقاء نفسه، وحين تعذَّرَ الأمر علينا قصَدَنا طبيبًا مختصًّا طَلَبَ منّا أنّ نجري الفحوصات اللازمة، وذلك بعدما كشَفَ عليّ ولم يجد أيّ خطب بِتكويني.
وطال الانتظار، وكنتُ جدّ خائفة مِن أنّ أكون غير قادرة على إعطاء فراس الولدَ الذي يتمنّاه، وكانت مخاوفي في محلّها، فحين جاء زوجي بالنتائج علِمتُ مِن ملامحه أنّ أحدنا غير قادر على الانجاب.
فتَحَ زوجي المغلّف وأعطاني الأوراق التي في داخله قائلاً:
ـ أنظري... مكتوب هنا أنّكِ عاقِر... إتَّصَلتُ الطبيب الذي أكّدَ لي الخبر وطَلَبَ منّا القبول بمشيئة الله.
ـ يا إلهي! قد يكون هناك علاج... فنحن في الألفيّة الثالثة والطبّ أصبَحَ متقدّمًا جدًّا.
ـ ألم تسمعي ما قلتُه لكِ؟ قال الطبيب إنّ لا جدوى مِن المحاولة... علينا أن ننسى موضوع الأولاد... نهائيًّا.
ـ أنا آسفة يا حبيبي... ولكن الأمر ليس بِيَدي... لو عَرَفتُ ذلك مسبقًا...
ـ لا بل لو أنا عرفتُ ذلك مسبقًا!
وتَرَكني أحاول فهم ما قصَدَه بجملته الأخيرة. بكيتُ لأنّني طالما تصوّرتُ نفسي محاطة بالأطفال، وها أنا محكومة بالعَيش مِن دونهم ومع ذنب كبير تجاه زوجي الذي بدا غاضبًا منّي.
ولأعوّض على فراس، صِرتُ أفعل ما يُريده بدون مناقشة، وأقبل مزاجه المتقلّب ولاحقًا خروجه مع أصدقائه. فعَلتُ ذلك كي لا أعطيه عذرًا إضافيًّا ليندم على الزواج منّي، ناسية أنّني إنسانة ويحقّ لي العيش مرفوعة الرأس مهما كانت الظروف، وأنّ ليس عليّ الخضوع لأيٍّ كان بسبب عدم تمكّني مِن الانجاب.
ولو كان فراس رجلاً محبًّا لمَا استغلّ نقطة ضعفي هذه، بل عمِلَ المستحيل كي لا أشعر بالنقصان. وعندما أفكّر بالذي فعَلَه بي، أسأل نفسي كيف تحمَّلتُ كلّ ذلك. فقد باتَ زوجي يُقلّل مِن احترامي ولا يتأخّر عن توبيخي عند كلّ مناسبة، خاصّة أمام الناس بتلميحه إلى أنّني لا أفهم بشيء ولستُ فالحة بالقيام بما تفعله حتى الحيوانات، أي الانجاب. وكان الناس يشعرون بالأسف لي وبالاحراج عنّي، وبالطبع قرَّرتُ عدم الخروج معه بتاتًا بدل أن أسكته وأمنعه مِن التقليل مِن شأني هكذا.
لم أخبر أهلي بالذي كنتُ أمّر به، لأنّي كان لدَيَّ أمل بأن تتغيّر الأمور. وهذا بالضبط ما كان ينتظره منّي فراس، فصارَ يعيش وكأنّه عازب، أي أنّه لم يعد يرجع إلى البيت سوى للنوم، ولم يعد حتى يُعاشرني بعذر أنّني كنتُ أشعره بالاشمئزاز.
تصوّروا حالتي النفسيّة آنذاك، صرت أكرَه نفسي، ولم أعد أشعر بأنوثتي أو كياني كلّه. حَطَّمَني زوجي وكان يستلذّ بذلك.
كانت قد مرَّت خمس سنوات على زواجنا حين قال لي فراس إنّه يريد الزواج مِن غيري، لأنّ مِن حقّه أن يحظى بعائلة وأنّني أحرمه مِن ذلك. لم يسعَني منعه وطلَبتُ منه أن يُطلّقني ولكنّه لم يفعل لأنّه - وحسب قوله - إنسان خلوق يحترم زوجته الأولى. لم أفهم أين رأى الاحترام بالذي فعَلَه بي طوال زواجنا وبقراره بالاقتران بأخرى، ولكنّني سكتُّ كعادتي. إستشَرتُ أبي فقال لي إنّه مِن الأفضل ألا أطلّق لأنّ ذلك لم يحصل مِن قبل في العائلة، ولم يكن يريد أن تكون ابنته هي الأولى. ضحّى أبي بي مِن أجل الناس كما يفعل الكثير مِن الأهل ببناتهم.
ولم أعد أرى فراس الذي كان فرحًا بعروسته الجديدة كما كان معي في البدء، وبقيتُ لوحدي أسأل نفسي كيف عليَّ التعامل مع ذلك الوضع الجديد. ومِن ثم وجدتُ عملاً لأنني كنتُ أحمل شهادة مهمّة. رفَضَ أبي توظيفي بشركته، لأنّه لم يكن يُريد أن يسأله الناس لماذا ابنته تعمل وأين زوجها مِن ذلك، فالجدير بالذكر أنّه لم يُخبر أحداً بأمر زواج فراس.
عمَلي الجديد أعطاني فرحة لم أكن أتصوّرها، وبدأتُ أخرج مِن يأسي وحزني حتى أنّني نسيتُ تقريبًا زوجي وزواجه عليّ. فبالإختلاط الناس فهِمتُ أنّ الرجال الحقيقيّين لا يُعاملون زوجاتهم هكذا وأدرَكتُ مدى غبائي. ولكنّني لم أعرف مدى قباحة فراس إلاّ لاحقًّا وصدفةً.
كانت إحدى زميلاتي تتكلّم عن موضوع الانجاب والعقم، وذكَرَت اسم طبيب قدِمَ مِن الخارج يُمكنه شفاء 90% مِن الحالات بفضل علاج جديد. خطَرَ ببالي زيارة ذلك الطبيب لأنّ قسمًا صغير منّي كان يتأمّل بعد باسترجاع كرامتي حتى لو كلّفني الأمر العيش مع انسان أهانَني. أعرف أنّ ذلك ليس منطقيًّا بعد كل الذي فعَلَه بي، ولكنّني كنتُ بحاجة لأنّ أشعر أنّني كسائر النساء.
أخَذتُ موعدًا مِن الطبيب وطلَبَت منّي السكرتيرة أن أجلب معي الفحوصات التي بحوزتي. وجدتُها في درج فراس الذي لم يتكبّد عناء أخذ أمتعتَه كلّها لكثرة حماسه على ترك البيت مِن أجل زوجته الجديدة.
وحين رأى ذلك الطبيب الشهير تحاليلي أطلَقَ ضحكة عالية وقال:
ـ ما هذه المهزلة يا سيّدتي؟
ـ وهل موضوع عقمي هو محطّ سخرية يا دكتور؟ حسبتُكَ انسانًا متفوّقًا في عملكَ.
ـ أنا لا أستخفّ بموضوع العقم يا سيّدتي، فهذا اختصاصي منذ سنين طويلة... ضحِكتُ على الطريقة الولدانيّة التي زوِّرَت بها تلك التحاليل.
ـ زوِّرَت؟؟؟
ـ أجل... وأفهم مِن ردّة فعلكِ أنّكِ لستِ مَن قامَ بذلك... دعيني أتكهّن... زوجكِ أتاكِ بها، ألَيس كذلك؟
ـ نعم ولكن...
ـ ولو تعمّقتِ بها لرأيتِ أنّها لا تحمل ختم المختبر أو الطبيب الذي قامَ بها... وأنا متأكّد بنسبة 100% أنّ لا خطَب بكِ وأنّ زوجكِ هو العاقر وإلا لِما يفعل ذلك؟ على كلّ حال سنجري التحاليل مِن جديد.
وكما تصوّرَ الطبيب تبّيَن أنّني لا أشكو مِن شيء... وفهمتُ اللعبة. كان فراس هو الذي لا يُنجب وألصقَ بي التهمة ليتمكّن منّي ويمارس ضغطًا دائمًا على "ابنة صاحب الشركة" وينال كلّ ما يريده. ولكن لأنّه لم يُحبّني يومًا، وقَعَ بحبّ أخرى ولم يعد قادرًا على البقاء معي.
وسألتُ نفسي كيف برَّرَ عدم الإنجاب أمام زوجته الثانية وكان لا بدّ لي أن أعلم.
لِذا قمتُ ببعض التحرّيات، وعلِمتُ أين يسكن فراس وزوجته، وانتظَرتُ حتى كان ذلك السافل في العمل لأدقّ باب شقّته. مِن أين جئتُ بكلّ تلك الشجاعة؟ هناك مقولة شهيرة مفادها: "ما لا يقتلك يجعلك أقوى"، وأنا كنتُ قد أصبحتُ أقوى بعد أن بدأتُ أحقّق ذاتي مِن خلال العمل، وبعد أن أكتشفتُ ما فعلَه بي ذلك الوحش. فتحَت لي زوجته الباب وعَرَّفتُها عن نفسي. كانت على وشَك إقفال الباب بوجهي خوفًا مِن أن أكون آتية لأذيّتها، ولكنّني صرَختُ بها:
ـ أنتِ أيضًا لا تنجبين؟
ـ ماذا؟ كيف علِمتِ بالأمر؟ هل فراس هو الذي قال لكِ ذلك؟
ـ بل هو الذي قال لكِ ذلك!
ـ لم أفهم... هل جئتِ لتخربي علاقتي بزوجي؟
ـ لا... جئتُ أقول لكِ إنّه أقنعَني بأنّني عاقر وذلك بتزوير نتائج تحاليلي وأنا متأكّدة مِن أنّه فعَلَ الشيء نفسه معكِ... هو العاقر وليس أنتِ ولا أنا... إسمعي... لا أكرهكِ بل آسف عليكِ مثلما آسف على نفسي... إذهبي إلى أيّ طبيب وقومي بالفحوصات مِن جديد وسترَين... وما الضرَرَ بذلك؟
ـ لا يوجد ضرَر
ـ ولا تقولي شيئًا لفراس، ثقي بي.
علِمتُ بعد فترة أنّ زوجة فراس طلّقَته، وأنا فعلتُ الشيء نفسه بعدما هدَّده أبي بالطرد إن وقَفَ بطريقي. وفور حصولي على الطلاق، تخلَّصَ منه والدي وأذاعَ خبر عدَم كفاءته بين الشركات الأخرى.
وذات يوم جاء أبي إليّ وقال لي:
ـ سامحيني حبيبتي... تركتُكِ تعانين لوحدكِ ولم أقم بواجبي كأب... خفتُ على سمعتي أكثر ممّا خفتُ عليكِ... أنا مِن جيل تعلّم الكتمان ومسايرة المجتمع... المجتمع نفسه الذي لا يُرضِيه أحد مهما فعل... كان عليّ حمايتكِ قبل حماية نفسي واسم العائلة... هل ما زلتِ تحبّيني؟
ـ بالطبع يا بابا!
وعانقتُه بقوّة وهمَستُ في أذنه: "أنتَ بطلي، لأنّ الاعتراف بالخطأ عمل شجاع".
حاورتها بولا جهشان