كان زوجي مستعدّاً لِفعل أيّ شيء لأترك عملي

قبل أن أتزوّج، كنتُ ككل بنات سنّي، أحلم بأن أبني أسرة جميلة والعمل على إسعاد زوجي وأولادي وأن أتفانى لهم وأضحّي بنفسي لأجلهم. ولكنّ الواقع لا يشبه دائماً هذه الصورة المثاليّة التي عاشها أهلنا، لأنّ الأيّام تغيّرَت وبات لنا أهداف مختلفة.
كنتُ قد دخلتُ الجامعة وحصلتُ على شهادة في المحاماة ووجدتُ عملاً في مكتب مشهور فور تخرّجي. حسدَني زملائي على حظّي وسررتُ أن أكون مِن القلائل الذين قُبلوا هناك. الفضل لم يكن عائداً فقط إلى الصدفة، بل  أيضاًإلى علاماتي الجيّدة وكنتُ قد قرّرتُ منذ البدء بأن أكون محامية عظيمة.
وبعد سنتين على دخولي عالم العمل، تعرّفتُ إلى جهاد الشاب الذي كان سيصبح زوجي. أحبّني مِن أوّل نظرة عندما إلتقى بي عند أصدقاء له وأنا أعجبتُ جداً به. خرجنا لفترة ثمّ إتفقنا أن نعقد قراننا ونعيش سويّاً حتى آخر أيامِنا. وهكذا أصبحتُ إمرأة متزوّجة ونسيتُ ما كنتُ قد قررتُ أن أفعل آنذاك بحياتي الزوجيّة، لأنّ حياتي كانت قد تغيّرَت وأخذت مِنحى آخراً، فبات مِن المستحيل أن أترك العمل الذي ولدتُ لأفعله وأن أقطع مشواري المهني فور بدايته. كنتُ قد أطلعتُ جهاد على عزمي على البقاء في سلك المحاماة وأنّني لا أريد الإنجاب فوراً، خاصة أنّنا كنّا ما زلنا في أوّل عمرنا وكان لدينا المتّسع مِن الوقت لبناء أسرتنا. وقَبِلَ معي ولم يبدِ أي إنزعاج للفكرة. كل ما كان يهمّه هو أن نكون مع بعضنا تحت سقف واحد. ولكن سرعان ما غيّر رأيه ورجعَ عن وعده لي وأصبحَ يصرّ أن نعمل على الإنجاب. فوجئتُ كثيراً لهذا التغيير  الجذري وسألتُه عن السبب فقال:

- قبلتُ معكِ لأنّني لم أرد إزعالكِ، فكنتِ جدّ متحمسة لمهنتكِ

- ولا أزال... الأمر مهمّ جدّاً بالنسبة لي ولم أكن أبالغ حين أجرينا ذلك الحديث... لو كنتُ أعلم أنّك لا تعني ما قلته لما..

- لما ماذا؟

- إسمعني حبيبي... أحبّكَ كثيراً ولكنّني أحبّ مهنة المحاماة أيضاً... وأريد أن تكون حياتي مزيج مِن العمل والحب دون أن أفقد شيئاً ولكن... إذا خيّرتَني فسأختار المهنة... أنا آسفة ولكنّني كنتُ واضحة معك منذ البداية. سنفكّر بالأولاد بعد سنتين أو ثلاثة... أعدكَ بذلك.

إستاء جهاد كثيراً عند سماع هذا ولكنّه كان يعلم أنّه السبب فيما يحدث، لأنّه أوهمني بأنّه موافق على الإنتظار. وإعتقدتُ أنّ الأمر قد حُسِم ولكنّ زوجي لم يكن مستعدّاً للإستسلام وبات عملي يشكّل له أزمة كبيرة إلى درجة أنّه لم يعد يفكّر إلّا بذلك. والغريب في الأمر أنّ عمله أيضاً مهمّاً بالنسبة له وأنّه لن يفكّر يوماً بالتخلّي عنه حتى لو طلبتُ مِنه فعل ذلك، لأنّه كان يعتقد فعلاً أنّ عمل المرأة ليس بجديّة عمل الرجل. وبدأ يزعجني في كل صباح عندما كنتُ أستعدّ للذهاب إلى المكتب، بإستعمال مصطلحات مليئة بالسخرية مثل: "أنظروا إليها... إن لم تذهب إلى العمل فسيتعطّل السلك القضائي بكامله" ومِن بعدها بالتهديد كَ: "إن كنتِ تظنّين أنّني سأظلّ ساكتاً فأنتِ مخطئة." حاولتُ مراراً أن أتكلّم معه وأشرح له لماذا أفعل هذا وأنّ حياتي المهنيّة تعطيني إمتنان ذاتي أنا بحاجة إليه وأنّني حتى لو كنتُ إمرأة فيحقُّ لي أن يكون لي مستقبل مهني إلى جانب دوري كربّة عائلة. ولكنّه لم يسمعني، ربّما بسبب ضغوطات عائلته التي لم تكفّ عن مطالبته بأن يصبح له وريث يحمل إسمه، خاصة أن أخاه لم ينجب سوى بناتاً.
كلّ هذا ولدّ جوّاً متعب لكلينا، حتى أنّنا بدأنا نفضّل عدم التواجد سويّاً قدر المستطاع. فكّرتُ حتى بترك ذلك الرجل الذي نسيَ أنّه كان يحبّني حتى الجنون لأنّه لم يعد يجعل قلبي يخفق بل بات يمثّل بالنسبة لي نموذج الإنسان الأنانيّ. وذهبتُ لزميلة لي متخصّصة بالأحوال الزوجيّة لأطلب نصيحتها ولكن لم يتسنّى لي المضيّ بمخطّطي لأنّه حصل شيئاً لم أتوقّعه أبداً. فبعد بضعة أيّام تمّ إستدعائي عند المدير ومِن لحظة دخولي، علمتُ أنّ شيئاً لم يكن على ما يرام. نظرَ إليّ بجديّة  وقال لي:

- يا أستاذة... يؤسفني أن أبلغكِ أنّنا لم نعد بحاجة إليكِ هنا. القرار نهائي فأرجو مِنكِ ألّا تثيري المتاعب. ستصلكِ رسالة فصلكِ بعد ساعة ريثما تكوني نظّفتِ درجكِ مِن حاجاتكِ الشخصيّة. وفي طريقكِ إلى خارج المكتب، لا تنسي أن تمرّي بفرع المحاسبة لتأخذي باقي راتبكِ.

نظرتُ إليه بذهول ولم أستوعب ما حصل لشدّة إستغرابي. لم أفعل شيئاً يستحقّ الطرد، بل كنتُ منذ البدء محاميّة نشيطة ونزيهة. إمتلأت عيوني بالدموع وفضّلتُ الخروج قبل أن يراني مديري وأنا أبكي. ذهبتُ إلى مكتبي وأفرغتُه وتوجّهتُ إلى المحاسبة. هناك أعطَتني زميلة لي شيكاً وقالَت لي بصوت خافت:

- وافيني في مقهى الشارع المحاذي... الساعة الثامِنة مساءً... هناك أشياء أريد أن أقولها لكِ.

لم أذهب إلى البيت، بل إلى أهلي لأخبرهم بما حصل لي. لم يصدّقوا الخبر وكانوا متأكّدين أنّ هناك حتماً خطأ وأنّني سأعود قريباً إلى عملي. وهناك قرأتُ مكتوب الفصل وكان وارداً فيه جملة: "بسبب تصرّفات غير أخلاقيّة خارج مكان العمل تؤثّر على سمعة المكتب ومصداقيّته." ولم أفهم قصدهم بذلك، فكانت حياتي هادئة جداً وشبه مثاليّة. إنتظرتُ حتى المساء لأوافي موظفة قسم المحاسبة في ذلك المقهى لأعرف تفاصيل طردي وأعلم كيف عليّ التصرّف ومَن ألوم على ما حصل لي. وجدتُها بإنتظاري تلتفت حولها خوفاً مِن أن يرانا أحداً سويّاً فقلتُ لها:

- لم أنتِ خائفة إلى هذه الدرجة؟

- بسبب ما قيل عنكِ... أعرف أنّها كلّها أكاذيب ولكنّكِ طردتِ وهذا يعني أنّ الحقيقة لا تهمّهم...

- ما الذي كنتِ تريدين إخباري؟

- أعلم مَن أثار الأخبار عنكِ...

- مَن؟ تكلّمي!

- زوجكِ... جهاد... أليس هذا إسمه؟

- أجل ولكن...

- لديه شقيق إسمه جابر... وهذا الشقيق يعمل في قسم الشرطة... أليس كذلك؟

- هذا صحيح...

- إتّصل بالمدير وقال له أنّكِ محط شبوهات في قضيّة دعارة كبيرة وأضاف أنّه سيستدعيكِ للتحقيق قريباً.

- ماذا؟ لا أصدّقكِ! وكيف علمتِ بكل ذلك؟ أنتِ تعملين بالمحاسبة.

- أجل ولكن سكريتيرة المدير هي صديقتي وهي تعرف شقيق زوجكِ وزوجكِ منذ ما كانت عزباء وتسكن في حيّ مِنزلهم القديم... وهي قالت لي أن جابر هو الذي إتّصل وربطتُ الأمور ببعضها... أرجوكِ... لا تقولي لزوجكِ أنّني قلتُ لكِ كل هذا... الآن تعلمين ما هم قادرون على فعله.

- لا تخافي... لن أسبّب لكِ المشاكل. 

خرجتُ مِن المقهى وأنا في غضب لا يوصف. كيف يعقل أن يكون زوجي قد وصل إلى هذا الحد؟ لم يأبه لسمعتي وفضّل أن يظنّ العالم بأكمله أنّني متّهمة بقضيّة دعارة على أن أبقى بعملي! قررتُ أن أتصرّف قبل فوات الأوان. ذهبتُ في اليوم التالي إلى مقرّ الشرطة وطلبتُ رؤية المسؤول هناك وأخبرتُه بأنّني محاميّة وأنّني سألاحق القسم بتهمة الذمّ والتشهير إن لم يعاقبوا مَن لطّخ سمعتي وإن لم أستعيد عملي بالمكتب. وأمام لهجتي الصارمة وعزمي الواضح، أخذَ هاتفه وإستدعى جابر شقيق زوجي. وعندما دخل هذا الأخير ورآني علَِم فوراً أنّ لعبته إنكشفَت وإعترفَ بكل شيء. وذهبنا نحن الثلاثة إلى مكتب المحاماة وقابلنا المدير وأطلعناه على الحقيقة. وبعد أن وعده مسؤول قسم الشرطة بأنّ جابر سيعاقَب وطلبَ مِنه إعادتي إلى عملي، أخذ منّي ضمانة بأنّني لن ألاحق القسم. ومِن بعدها ذهبتُ إلى صديقتي المحامية وطلبتُ مِنها أن تحضّر لي ملفّ طلاقي ورجعتُ مِنزلي وأخذتُ أمتعتي إلى أهلي ومكثتُ هناك بإنتظار أن يتصل بي جهاد بعدما يلاحظ غيابي. وعندما فعل قلتُ له:

- لن أمكث معك لحظة واحدة بعدما فعلته بي... عار عليكِ... أليس لديكَ ذرّة شرف؟ تلطّخ سمعة زوجتك بهذه السهولة؟ لم يكن يجدر يي أن أتزوّج مِن إنسان مثلكَ. مِن الجيّد أنّكَ أريتَني وجهكَ الحقيقيّ قبل أن يكون لدينا أولاداً ويصبح طلاقي مِنكَ أصعب.

هذه القصّة حصلَت منذ سنين وأنا اليوم محامية معروفة ومتزوّجة مِن رجل رائع ولديّ ولديَن جميلَين وهذا يثبت أنّ المرأة يمكنها أن تنجح مهنيّاً وزوجيّاً وعائليّاً إن وجدَّت الرجل الذي يساندها ويشجّعها على تحقيق ذاتها.

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button