لماذا سمعتُ من صديقتي وإلتحقتُ بالجامعة؟ ربّما لأنّني كنتُ أشعر بالملل في المنزل، رغم وجود زوجي وطفلتي.
لم يتسنّى لي إكمال دراستي وكنتُ أحلم بنَيل إجازة بأيّ مادّة كانت. وبعد أن تزوّجتُ وأنجبتُ إبنتي، أصابني شعور عميق بأنني أهدر حياتي مع مرور الأيّام والسنين. صحيح أنّ ماجد كان يحبّني كثيراً ولكنّه لم يكن من هؤلاء الرجال الذين يغمرون زوجتهم بالمجاملات والهدايا أو بأيّ شيء يدلّ على إهتمام خاص. وأنا كنتُ من الطبع الرومانسي، أحبّ مشاهدة المسلسلات المليئة بالشغف والبطولات. وعندما جاءت صديقتي أنيسة في ذات يوم وأخبرَتني أنّها ستتابع دراستها، أعجبَتني الفكرة كثيراً وقرّرتُ أن أفعل مثلها. ظننتُ أنّ ماجد سيكون مسروراً، لكنني كنتُ مخطئة. أصابه غضب كبير وقال لي من دون أيّ تردّد:
- لا! أنتِ زوجة وأمّ وهذا مكانكِ!
- ولكن حبيبي...
- لن أسمح بأي جدل... إنتهى الموضوع.
وتركَ الصالون حيث كنّا جالسين وذهبَ لينام. حزنتُ كثيراً لأنني كنتُ أتصوّر نفسي أرتاد الجامعة وأجلس في الصف أستمع للأساتذة وهم يشرحون الدروس أو جالسة في الكافيتيريا أناقش مواضيع مهمّة مع زملائي. وكان زوجي قد دمّر كل أحلامي في ضربة واحدة. حاولتُ التحدّث إليه لأعرف لِما هذه الممانعة الشديدة ولكنّه لطالما كان عنيداً لا يحبّ أن يتراجع عن كلمته. أظنّ أنّ الموضوع كان سينتهي هنا لولا أنيسة، فعندما علِمَت بما قاله زوجي ثارَت بكل قواها وقالت:
- هذا لا يصحّ! وهل أنتِ ملك لديه ليقرّر عنكِ ما تفعلينه أو لا تفعلينه؟ لو كنتُ متزوّجة ولديّ زوجاً مثله لطلّقته فوراً!
- أجل ولكنكِ لستِ متزوّجة وليس لديكِ أطفالاً... فلا يمكنكِ أن تكوني مكاني... على كل حال حاولتُ...
ولكن كلام صديقتي كان قد أثّر بي دون أن أعلم وسكنتني نقمة ضدّ هذا الرجل الذي كان يقف بيني وبين العلم والمعرفة.
وأخذتُ قراراً ندمتُ عليه لاحقاً: تسجّلتُ في الجامعة خفيَة. وكّلتُ أنيسة بالمعاملات اللازمة ووعدِتني أن تأتي لي بالدروس إلى البيت. كل ما كان عليّ فعله كان أن أذهب في آخر الفصل وأخضع للإمتحانات. بدا لي الأمر سهلاً وكنتُ أكيدة أنّ ماجد لن ينتبه لشيء خاصة أنّه كان يقضي كل نهاره في المكتب ولا يعود إلا في المساء. وكان هذا النمط يُتيح لي الفرصة بأن أدرس طيلة فترة غيابه. وبدأت تأتي لي صديقتي بالدروس وعملتُ على تقسيم وقتي بينها وبين الإهتمام بالبيت وبإبنتي. وللحقيقة لم يكن الأمر سهلاً، فمِن دون حضور الحصص كان صعباً عليّ فهم كل شيء والمتابعة كأنني في الصفّ. لذا ضاعفتُ جهودي وأبحثي على الإنترنت. ولكثرة تعبي الجسدي والفكري أصبحَتُ صعبة المزاج مع زوجي وطفلتي. وإنتهى أخيراً أوّل فصل بعدما إجتزتُه ببراعة وتسجّلتُ للتالي دون أن يشكّ زوجي بأيّ شيء، فكنتُ قد أصبحتُ ماهرة في الكذب وتغطية غيابي. لم أكن أشعر بالذنب، بل كنتُ فخورة بنفسي. ولكنّ الفصل الثاني كان أصعب من الأوّل ويتطلّب تركيزاً أكبر ودرساً أعمق. وفي هكذا ظروف، كان لا بدّ لي أن أهمل جانب من حياتي. فإصراري على أن أكون عند حسن ظنّ ماجد ولكيّ لا يلاحظ أيّ تغيير في تصرّفاتي، همَلتُ إبنتي الصغيرة. ففي يوم من الأيّام نسيتُ أن آخذها من عند قريبة لنا بعدما وضعتها سرّاً عندها يوم الإمتحان. لكثرة إرتباكي رجعتُ إلى البيت من دونها وكان زوجي على وشك أن يصل. صرختُ عالياً عندما إكتشفتُ أنني نسيتُ بكل بساطة أعزّ شخص على قلبي وركضتُ آتي بها قبل رجوع ماجد. نظرَت إليّ المرأة نظرة عتاب وجعلتُها تقسم لي ألا تخبر أحد بالذي حصل وأعطيتُها بعض المال للتأكدّ من سكوتها. كان عليّ التوقّف حينها ولكنني أكملتُ مشواري نحو العلم. فالشعور الذي كان ينتابني خلال الإمتحان وعندما أذهب لأخذ النتيجة وأن أعرف أنني نجحتُ كان لا مثيل له ويساوي عندي أموراً كثيرة ولم أكن مستعدّة للتخلّي عن كل هذا. ولكن في الإمتحان التالي، عندما قرعت باب قريبتنا، رفضَت أخذ طفلتي خوفاً من تحمّل المسؤوليّة بعدما علِمَت أنّ زوجي ليس على علم بشيء. تلبّكتُ كثيراً، فكان لا بدّ لي أن أذهب إلى الجامعة إن كنتُ أريد تفادي الرسوب. فركضتُ كالمجنونة بإبنتي من مكان إلى آخر لأجدَ من يبقى معها ولكنني لم أقدر. فعدتُ إلى البيت وفي قلبي حزن وغضب عميق. فقدتُ السيطرة على أعصابي وبدأتُ أصرخ على إبنتي وألومها على ما حصل وعلى رسوبي المحتوم. ولصغر سنّها لم تفهم ما قلتُها لها ولكنّها من نبرة صوتي وصراخي بدأَت تبكي وبقوّة. وأدركتُ فظاعة ما فعلتُة بهذه المخلوقة البريئة. وفي تلك اللحظة عاد ماجد من العمل وسمِعَ صراخي وبكاء الصغيرة، فركضَ وحمِلها وعمِلَ على تهدئتها وقال لي بغضب:
- متى ستفهمين أنّكِ تؤذيننا جميعاً بإصراركِ على التعلّم؟
- وكيف علمتَ ؟
- بدأتُ أشكّ بالأمر منذ ما أخبرَتني قريبتنا أنّكِ نسيتِ إبنتنا عندها.
- السافلة! وعدَتني ألا تخبر أحد!
- الدمّ أقوى من المال. فبدأتُ أتبعكِ ورأيتكِ تذهبين إلى الجامعة. وتحمّلتُ تمثيلكِ المستمرّ ولكن بعد ما رأيتُه الآن عليّ وضع حدّ لهذه المهزلة.
- وماذا تنوي فعله الآن؟ ستمنعني من إكمال علمي لأنّني عصيتُ أوامركَ؟
- بل لأنّ أعصابكِ تعبَت كثيراً وهذا ما كنتُ أخشاه من الأوّل. لو سمعتِ منّي...
- لو سمعتُ منكَ؟ أنتَ لم تتكلّم معي بالموضوع ولم تشرَح لي شيئاً بل أمرتَني ومنعتَني عن النقاش!
- أنتِ محقّة... إسمعيني... ما رأيكِ لو توقفي الدراسة إلى حين تذهب إبنتنا إلى المدرسة ثم تلتحقين بالجامعة مجدّداً؟
- هل تعدني بأن يحصلَ ذلك فعلاً؟ أم أنّكَ ستغضَب وتهدّد؟
- أعدكِ حتى أن أساعدكِ في دروسكِ وأصتحبكِ بنفسي إلى الإمتحان! ما رأيكِ؟
قبّلتُ زوجي وإبنتي بحرارة. وبعد بضعة سنين نلتُ إجازتي في علم النفس وأنا اليوم أعمل في مدرسة أساعد الأولاد ذوي الإحتياجات الخاصة.
حاورتها بولا جهشان