كم مِن مرّة نحب أشخاصاً لا يكنّون لنا بأيّ مودّة أو خير لأنّنا أنقياء القلوب ولا نعرف معنى الكره أو الضغينة. وكم مِن مرّة يكون هذا الشخص قريب منّا ولا نكتشف حقيقة نواياه إلاّ لاحقاً بعد فوات الأوان. ولكنّنا نسامحه ونحاول أيجاد أعذاراً له رغم الأذى الذي سبّبه لنا. وهذا ما حصَل لي مع أختي.
ولدتُ مع غادة في نفس الوقت أيّ أنّنا تؤامَتَين غير حقيقيَّتين لأنّنا كبرنا في رحمَين منفصلَين في بطن أمّنا. ولكنّ غادة أبصَرَت النور دقائق قليلة قبلي وأعتبر الجميع أنّها البكر ما أعطاها الحق بالإستقواء عليّ والنظر إليّ وكأنّني أقل منها شأناً. وقبِلتُ هذه النظرة منها لأنّني أحبَبتُ فكرة الأخت الأكبر والشعرورٍ بالأمان لوجودها معي. ولم نكن نشبه بعضنا كثيراً فكانت غادة عاديّة الملامح والقوام بينما كنتُ جميلة وممشوقة ماعزّز عندها حاجتها لِفرض نفسها عليّ والإنتقام منّي لِهذا الفرق خاصة أنّ الجميع كان مشدوداً إليّ ولا أظنّ أنّ السبب كان جمالي فقط بل طيبتي وبراءتي.
في المدرسة كنتُ أنال علامات عالية بينما بقيَت أختي تناضل للإنتقال مِن صف إلى آخر. وحاولتُ مساعدتها في درسها ولكنّها بقيَت ترفض ذلك مردّدة: "أنتِ تساعدينني أنا؟" وكبرَ الشرخ بيننا يوماً بعد يوم. ولكنّني لم أكن محظوظة كليّاً لأنّني ومنذ صِغَري شُخِّصتُ بمشاكل في القلب وكان عليّ أن آخذ علاجاً مدى حياتي وأظنّ أن ذلك أعطى غادة بعض الإطمئنان لأنّني كنتُ غير كاملة. ولكنّ مَرضي إستقطبَ اهتمام أهلي ومحيطي وبتُّ الطفلة المدلّلة دون منازع. ورغم محاولاتي العديدة لنَيل محبّة أختي بقيَت هي تبعد عنّي وطلَبَت مِن أهلي أن يكلّموا إدارة مدرستنا لفصلنا في صفوف مختلفة متحجّجة بأنّ وجودي معها في نفس الصفّ يلهيها عن الدرس ويؤثّر على علاماتها.
ولكن وبعد أن أصبحنا منفصِلتَين بقيَت غادة ترسب كالسابق. ولسنين عديدة لم أكن مُدركة إلى أيّ مدى تكرهني أختي وكنتُ أفسّر تصرّفاتها وكأنّها مناكفات تحصل بين كل الإخوات. ولكن ومع مرور الوقت إزدادَت خطورة مشاكلي الصحيّة ولم أعد قادرة على اللعب كالسابق أو القيام بكل ما يتعب فقرّر والدَيّ أن يبقياني في البيت وأن يأتيان لي بمدّرسة خاصة لِمتابعة دراستي. وعندها أيضاً إستاءَت أختي معتبرة أنّ مرّة أخرى إستطعتُ جلب العطف والمعاملة الخاصة لنفسي. وأظنّ أنّ الأمور كانت ستقف إلى ذلك الحد لولا وقوعي بعد سنوات في الحبّ.
كنتُ قد بلغتُ السابعة عشر وكانت مدرّستي الخاصة قد قرّرَت السفر إلى الخارج مع عائلتها حين جاء والدَيّ بمدرّس شاب يواصل دراسته في الجامعة ويحتاج إلى المال لينهي إختصاصه. ووقعتُ تحت تأثير وسامته وثقافته ولياقته وكذلك حصَلَ لغادة. ولو قالت لي أنّها معجبة به أقسم أنّني كنتُ إحتفظتُ بمشاعري لنفسي وأعطَيتُها الفرصة لتكون سعيدة. ولكنّها فضَّلت كالعادة كبت شعورها وتظاهرَت بأنّ الأمر لا يعنيها. لِذا لم أرَ مانعاً لتبادل النظرات مع رأفَت الذي سُرَّ بهذا التجاوب وبعد أقلّ مِن سنة أعَرَب لي مدرّسي عن نيّته بالزواج منّي خاصة أنّه حصل على شهادته ومستقبل واعد. وتكلّم مع أهلي بالموضوع وكان الجميع مسروراً. ليس الجميع طبعاً ولكنّ مرّة أخرى لم تقل غادة شيئاً وإكتفَت بالتنكيل بي يوميّاً للانتقام منّي ومنعَتني فرحتي مِن رؤية ما يجري وخلتُها فعلاً سعيدة لي.
ولكنّ مَرَضي لم يكن يسمح لي بالزواج وبالرغم أن رأفَت كان على علم بذلك لم يغيّر رأيه بما يخصّ ارتباطنا خاصة أنّه كان قد عَرَض حالتي على خاله الذي كان جرّاحاً مشهوراً في إحدى مستشفيات أوروبا. وبعد أن درسَ هذا الأخير ملفّي الصحيّ أكّدَ له أنّ عمليّة جراحيّة قد تعيد لي حياتي الطبيعيّة. ولكن هذا الخبر كان بمثابة صدمة لأختي لأنّني كنتُ سأصبح سليمة وسعيدة الأمر الذي لم تكن قادرة على تحملّه خاصة بعدما عانَت مطوّلاً مِن جمالي وذكائي. وكانت قد قرّرَت أن تمنعني بأيّ ثمَن مِن الحصول على فرصتي في الشفاء حتى لو بلغ الأمر حدّ القتل. لا أعنّي بذلك أنّها كانت ستحمل مسدّساً أو خنجراً وتقتلني بنفسها ولكنّ النتيجة كانت مشابهة.
وبدأَت تخيفني مِن العمليّة وبشكل مكثّف وتأتي لي بمقالات عن أناس توفّوا مِن جرّاءها وأمثلة عن مَن عاشَ طبيعيّاً مِن دون تلك الجراحة متحجّجة بأنّها لا تريد فقدان أختها الوحيدة. وكانت دائماً تردّد أن رأفَت لن يحبّني أكثر مّما تحبّني هي لأنّه كان مجرّد غريباً أتى إلى حياتنا مِن سنة. واستطاعت زرع الشكّ والخوف في عقلي إلى درجة أنّني رفضتُ فكرة العمليّة وبشكل قاطع. وحاوَل أهلي وخطيبي إرجاعي إلى صوابي ولكنّني أجَبتُهم أنّني "أفضّل العيش كما أنا على أن أموت في غرفة عمليّات". ولم تكن هذه الجملة منّي بل مِن غادة التي ردّدَتها لي مرّات كثيرة حتى أن ترسّخَت بفكري.
ولِكثرة خوف رأفَت عليّ طلبَ مِن خاله المجيء خصيّصاً مِن أوروبا للتكلّم معي وشرح منافع الجراحة آملاً بأن يستطيع ذلك تبديل رأيي. ولكنّني بقيتُ على موقفي ما خلقَ بيننا مشاكل كبيرة لأنّه إعتبَر أنّني لا أفعل ما يلزم لنستطيع الزواج ولأنّني لا أحبّه كفاية. وهكذا إنفصلنا بعد فترة وسافَرَ هو الآخر ليستطيع نسياني. ولكن بعد إنفصالنا انتابني حزن كبير وإكتئاب عميق ولم ألقى مِن أختي الدعم الذي توقّعتُه خاصة أنّها كانت التي أقنعَتني بالعدول عن العمليّة. فبدلاً أن تواسيني إبتعَدت عنّي وكأنّ مهمّتها إنتهَت وشعرتُ بوحدة عميقة وشوق لحنان حبيبي. وبعد فترة ولكثرة أسفي على ضياع فرصة الحب منّي تأزّمَت حالتي الصحيّة لِدرجة أنّني دخلتُ قسم العناية الفائقة. هناك وبالرغم مِن العلاجات التي خضعتُ لها لم أتحسّن لأنّني وبكل بساطة كنتُ أحتاج إلى جراحة. وعندما سمِعَت غادة ذلك خافَت أن أقبل اجراءها فلحقَت بي إلى المستشفى ودخلَت الغرفة وبدأَت تهمس بأذني:
ـ إيّاكِ أن توافقي! وإلا ستموتين!
ـ ولكنّني الآن على وشك الموت!
ـ لا... ستتعافين... ستَرين... لا أريد أن أخسركِ... أنتِ نصفي الآخر... أنتِ حبيبتي.
وكنتُ سأموت فعلاً لولا قدوم رأفَت إليّ. كانت أمّي قد أوصَلت له خبر دخولي المستشفى فأخَذَ أوّل طائرة متجّهة إلى هنا. وبقيَ إلى جانبي حتى أن أقنعَني باللجوء إلى الجراحة واعداً بأنّها ستنجح وأنّه لن يتركني أبداً. ولأنّني عانيتُ كثيراً مِن بُعده عنّي وافقتُ أخيراً. وبالطبع نجحَت العمليّة وبعد فترة متعبة ومؤلمة تعافَيتُ وبات قلبي يعمل بطريقة سليمة. وكانت غادة قد كفَّت عن التكلّم معي معتبرة أنّني أعصَيتُ إرادتها وبالرغم مِن محاولاتي العديدة بإقناعها بإن لا حاجة للجفاء وأنّني تعافيتُ ولم أمُت بقيَت على موقفها. وبعد حوالي السنة حدّدنا موعد الزفاف وبدأنا بالتحضيرات. وكان هذا الحدث بالنسبة لغادة بمثابة الإهانة الكبرى والدليل على فشلها الذريع في حياتها. وبدلاً أن تفرح لي وتدعو لي بالسعادة كرَهَتني إلى درجة لا توصف. ومِن يأسها وغضبها وإرادتها بتفشيل زفافي قرّرَت أختي أن تقتل نفسها في ذلك اليوم بالذات.
فبينما كان المدعوّون قد بدأوا بالوصول سمعنا صرخة مزّقَت الجوّ آتية مِن الخارج. وعندما ركضنا لنرى ما حصل وجدنا غادة ملقاة على الأرض وسط بركة مِن الدم. كانت قد ألقَت نفسها عن سطح المبنى. ولم يفهم أيّ منّا سبب ما فعَلته لفترة طويلة أصبتُ خلالها بحزن عميق أثّرَ على حياتي الزوّجية والعائليّة إلى حين وجدتُ بالصدفة دفتر مذكّرات أختي. كنتُ قد أتيتُ إلى منزل أهلي لزيارتهم فأعربتُ عن نيّتي بالذهاب إلى غرفة غادة التي بقيَت على حالها منذ وفاتها. وجلستُ على سريرها أبكي بحرارة حين شعرتُ بشيء تحت الفراش. وقفتُ ورفعتُه ووجدتُ الدفتر وأخذتُ أقرأ به. تفاجأتُ كثيراً بكمّ الكره الموجود فيه والخطط العديدة التي رسمَتها لي خلال السنين للنَيل منّي. وعندما أغلقتُ الدفتر جلستُ مطوّلاً أفكرّ بالذي قرأتُه ولكنّني لم أشعر بأي غضب تجاهها لأنّني أدركتُ مدى تعاستها والعذاب الذي رافقَها طوال حياتها القصيرة.
حاورتها بولا جهشان