حتى لو كنتُ اليوم صبيّة قويّة ومستقلّة فلم يكن الوضع هكذا دائمًا. والفضل يعود إلى أهلي، وخاصة أبي الذي علَّمَني كيف أدافع عن نفسي وأرفض أي شكل مِن أشكال التعنيف، وذلك بعد الذي حصَلَ لي في المدرسة حين كنتُ صغيرة.
كنتُ في السّادسة مِن عمري وكان لدَينا مدرّسة مجنونة فعلاً. ولكنّها كانت تعلم كيف تخبّئ عِقدها خلف قناع اللطافة والفعاليّة عندما تقابل أهلنا. ولكنّنا كنّا نخاف منها عندما تغلق باب الصف وراءها، وتدخل مهدّدة بأقصى العقوبات إن تصرّفنا بطريقة مغايرة لتعليماتها. فكان لدَيها طلبات خاصة والوَيل لِمَن لا يطيعها.
كانت الآنسة رغدة قد منعَتنا مِن استعمال الممحاة. وبالرغم مِن معرفتي بالأمر قرَّرتُ أن أجلَب معي ممحاتي في حال أخطأتُ بالكتابة. وركضَ رفاقي يشكوني عند المدرّسة التي نظَرَت اليّ بِغضب غير مسبوق وقرّرَت أن تجعل منّي أمثولة.
قد يتصوّر كلّ انسان عاقل أنّ الآنسة رغدة قاصَصَتني لِعدم الإمتثال لتعليماتها بإعطائي فرضًا إضافيًّا لأحفظه، ويا ليت كان هذا ما حصل! فبدلاً مِن ذلك، أخَذَت مسطرة كبيرة وبدأَت تضربني بها بوحشيّة تامّة. وكلّما صرختُ مِن الألم كلّما زادَ غضبها. واستمرَّت بالضرب على كامل جسمي حتى لم أعد أعي الذي يحصل.
وبعد أن انتهَت قالَت لي:
ـ إيّاكِ أن تخبري أحدًا بالذي حصل وإلا ضربتُكِ مجدّدًا... وستكون المرّة القادمة أعنف بكثير! وبالطبع سترسبين وتعيدين سنتكِ أو حتى تُطَردين مِن المدرسة! أفهمتِ؟!؟
ثم استدارَت نحو باقي الصف وقالت لهم:
ـ وذلك سارٍ عليكم أيضًا!
وعُدتُ إلى مكاني لأبكي ِبصمت على إهانتي وألَمي. وانتظرتُ بفارغ الصبر أن ينتهي النهار كي أبعد عن ذلك المكان المخيف.
وبالطبع لم أقل شيئًا عندما عدتُ إلى البيت بسبب تهديد المدرّسة، ولكن في المساء حين حان موعد الإستحمام صَرَخَت أمّي مذعورة عند رؤية الكدمات التي غطَّت جسمي بكامله.
وركَضَ أبي وبدآ يسألاني عن هويّة الفاعل، ولكنّني لم أتفوّه بكلمة واحدة واكتفَيتُ بالبكاء.
وبالطبع أوّل شيء خطَرَ على بال والدَيَّ هو أنّني تعرّضتُ للتحرّش الجنسيّ في المدرسة وكانت حالتهما يُرثى لها.
وأسَرَعَت أمّي بأخذي عند طبيب العائلة الذي ذُهِلَ بدوره لوحشيّة الآثار المنتشرة على جسمي. وبعد أن فحصَني، أكّدَ لها أنّني لم أفقد بكارتي ولكنّه لا يستبعد نظريّة التحرّش الجنسيّ. وحاوَلَ بدوره سؤالي إلا أنّني اكتفَيتُ بالبكاء على السرّ الذي أحمله وعلى الفحص الحميم الذي خضعتُ له في العيادة. ونصَحَ الطبيب أمّي أن تأخذني إلى أخصّائيّ نفسيّ قبل أن تقوم بأيّ خطوة ضدّ المدرسة.
وطبعًا رفضتُ رفضًا قاطعًا أن أعود إلى صفّي الذي باتَ يعني لي الألم والخوف. ولم يشأ والداي إعادتي إلى هناك قبل معرفة ما حدَث. هل كان الفاعل أحد التلامذة أو عاملاً أو حتى أستاذًا؟ لم يخطر أبدًا ببالهما أنّ الآنسة رغدة اللطيفة والمربيّة المثاليّة هي التي شنّعَت بي هكذا. والجدير بالذكر أنّ أمّي كانت حاملاً آنذاك، وأثَّرَت الصدمة عليها كثيرًا ممّا أثقَلَ عليها فترة حملها.
وأخذني أهلي إلى الطبيب النفسيّ الذي كان مختصًّا بالأولاد، ويعلم كيف يحملهم على التكلّم بواسطة ألعاب ورسوم وقصّص. ولكنّه لقي عدم تجاوب واضح مِن جانبي، فأنا لم أنسَ تهديدات معلّمتي خاصة أنّني كنتُ أعلم أنّها قادرة على تنفيذها. وأخَذَ الطبيب يطلب منّي رسم ما أريده بعد أن أعطاني أقلام تلوين ولكنّه لم يحصل على نتيجة.
وعدتُ إلى البيت لأنزوي كأيّ طفلة بحالتي بعد أن فقَدتُ الثقة بمعلمتي التي خلتُها مثالاً أعلى لي. وكنتُ قد أدركتُ، وبسنّ صغير للغاية، أنّ الشّر موجود وأنّ الأذى يُمكن أن يكون مجّانيّاً.
ولكنّني لم أفهم طبعًا أنّ لدَى الكبار عقداً نفسيّة، لِذا بقيَ عندي شك بأنّني السبب بما حصَلَ لي وإلا لِما فعلت معلمّتي بي ذلك ؟
ولم أذهب إلى المدرسة بعد أن قال أبي للإدارة إنّني مريضة، وذلك لأتمكّن مِن متابعة زياراتي للمعالج ولأنّني كما ذكرتُ لم أكن مستعدّة أبدًا للعودة إلى صفيّ.
وغيَّرَ الطبيب الطريقة، وبدأ يُريني أوراقًا مكتوب عليها كلمات، وطلَبَ منّي ان أقول له أوّل شيء يخطر ببالي عند قراءتها. وبعد بضعة أوراق، جاء دور كلمة "مدرسة" فقلتُ له "خوف"، ومِن ثمّ أراني كلمة "معلّمة" فأجبتُ "ألم". وعَلِمَ فورًا أنّ تعنيفي حصل في الصف.
بقيَ له أن يعرف أيّة مدرّسة كنتُ أتكلّم عنها، فطلَبَ منّي أن أرسم له مدرّساتي. ومِن الرّسمة إستنتج أنّ المدرّسة التي صوّرتها غاضبة وشنيعة هي التي عنّفَتني. ولكنّه كان بحاجة إلى معرفة إسمها، فقال لي:
ـ كم أنتِ بارعة بالرسم! ولكن ألا يجدر بكِ أن تُعطي تلك الآنسات أسماء؟ الكُلّ يحمل إسمًا، أنتِ لديكِ إسم وأنا كذلك.
ودوّنتُ أسماء مدرّساتي تحت كل صورة، وأخَذَ الطبيب الرّسمة وطلَبَ منّي أن أنتظره. وخَرَج إلى والدَيّ اللذين كانا في الغرفة المجاورة.
وسمعتُ أصواتًا تتعالى، فكان أهلي قد بدآ بالتهديد وإستنكار وحشيّة المدرّسة.
وإلى جانب تقرير طبيب العائلة، أخَذَ أبي تقريراً آخر مِن الطبيب النفسيّ وركبنا كلنّا السيّارة وتوجّهنا إلى المدرسة. وفي مكتب المديرة حملَتني أمّي على خلع ملابسي.
وذُهلَت المديرة، خاصة بعدما شرحَ لها أبي أنّ الفاعلة هي الآنسة رغدة.
وتمّ استدعاء المجرمة، وعندما دخَلَت المكتب ورأتنا نظَرَت إليّ نظرة شرّ وقالت لي على الفور:
ـ أيّتها الكاذبة! ماذا قلتِ لهم؟
وأجابَتها المديرة:
ـ آنسة رغدة... لم نتهّمكِ بشيء... بل أوقَعتِ نفسكِ بِنفسكِ.
وجاء التلاميذ واحد تلوَ الآخر، وبعد أن طمأنَتهم المديرة بأنّ لا شيء سيحصل لهم إن قالوا الحقيقة، أخبروا القصّة كما حصَلَت. عندها قامَت أمّي مِن مكانها، وصَفَعت المدرّسة بقوّة لم أتصوّر أنّ امرأة حاملاً على تمتلكها قائلة:
ـ هذا جزء صغير مِن الذي فعلته بابنتي!
وبالطبع طُرِدَت المدرّسة على الفور، بعد أن طلَبَ أبي ذلك وإلاّ رفَعَ دعوى ضدّها وضدّ المدرسة. وقال للآنسة رغدة:
ـ إن علمتُ أنّكِ تدرّسين مِن جديد سأفعل جهدي لسجنكِ... إيّاكِ أن تقتربي مِن تلميذ بعد الآن!
وبدأ والدي يقول لي إنّ عليّ الدفاع عن نفسي وعدم السماح لأحد بِلمسي أو إيذائي مهما كان ومهما حصل.
وأفهَمَني والدي أنّ عليّ التكلّم عن كلّ الذي يُزعجني حتى لو اعتقَدتُ أنّ الذنب ذنبي، فبالمصارحة والتواصل يُفضح الفاعل ويُمنَع مِن مواصلة تعنيفه. وقال لي إنّه وأمّي موجودان لحمايتي واستيعاب كلّ ما يحصل لي، لأنّهما أهلي وواجبهما حمايتي إلى حين أستطيع حماية نفسي. ولذلك الغرض أخذَني أبي إلى نادٍ رياضيّ وسجّلَنيَ في صف التايكوندو لأتعلّم الدفاع عن نفسي.
وكم كبرَ قلبي بهكذا أهل! شعرتُ حقًّا أنّني أستطيع الإتكال عليهما، وأنّهما سيكونان سندًا وملجأً آمنًا لي. ولم أعد أخاف مِن شيء أو مِن أحد، لأنّني أدركتُ أنّ الثقة بالنفس وبالحق أقوى سلاح في العالم، لأنّ الأشرار يبحثون عن الضعفاء لأنّهم جبناء بحدّ ذاتهم.
أنا اليوم مدرّسة، وحين أنظر إلى تلاميذي أرى دائمًا نفسي فيهم، وأدرِك أنّهم بين يدَيّ لأحافظ عليهم، وأعلّمهم إلى جانب دروسهم كيف يُؤمنون بقدراتهم وحقوقهم وكيانهم.
حاورتها بولا جهشان