كان أبي رجلاً قاسياً ونظاميّاً وعلِمتُ مِن أمّي أنّها عانَت الكثير منه منذ اليوم الأوّل لزواجهما وحتى مؤخّراً. وسكتَت على طباعه الحادّة فقط لأنّها حَمِلت بي ولم تكن تريد أن أدفع ثمن خلافاتهما. ولأنّها إنسانة طيبّة، لم تدفَعني على كرهه، بل حاولَت إعطائه أعذاراً كلمّا رفعَ صوته بي أو هدّدَني بالضرب على أشياء كلّها تافهة. وكانت تقول لي دائماً:
ـ صحيح أنّه عصبّي ولكنّه يحبّنا.
وصدّقتُ تلك الكذبة لسنين عديدة لأنّني كنتُ لا أزال صغيرة لا أفهم الحياة بعد. ورغم كل شيء، كنتُ أحبّه كثيراً خاصة عندما يشتري لي الألعاب في مناسبة عيد ميلادي لأنّها كانت المرّة الوحيدة التي كان يفكرّ بي. لذا كنتُ أنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر وأتمنّى أن يضع على خدّي القبلة التقليديّة لأحفظها بذاكرتي مدّة 365 يوماً.
وعندما بلغتُ السابعة مِن عمري، طلبَ والدي مِن أمّي أن تسجّلني في مدرسة داخليّة ولم نفهم لماذا بمأنني كنتُ فتاة هادئة ومهذّبة. بكينا كثيراً أنا وأمّي ولكنّه لم يغيّر رأيه. وهكذا وجدتُ نفسي أوضّب حقيبتي وأرحل مِن البيت لألتحِق بتلك المؤسّسة الصارمة والحزينة. هناك إلتقيتُ بفتيات عديدات ولكل منهنّ قصّة ولكنّني كنتُ الوحيدة التي لم يكن لها سبباً وجيهاً للتواجد بينهنّ. ولم يكن مسموحاً لي أن أرى أهلي إلاّ في عطلة نهاية الأسبوع، لِذا كنتُ أنتظر على أحرّ مِن الجمر أن يُطلَق سراحي وأطير إلى دياري. هناك كنتُ أجلس مع أمّي طوال الوقت لا أترك جانبها أبداً خوفاً مِن أن أضيّع ثانية واحدة مِن هذا الوقت الثمين. أمّا والدي فلم يكن دائماً موجوداً ولم يهمّني إن رأيتُه أم لا، فكان هو السبب بإرسالي إلى تلك المدرسة.
وفي إحدى زياراتي إلى البيت، علِمتُ مِن أمّي أنّها حامل. فرِحتُ كثيراً عند سماع الخبر ورجوتُ الله أن تكون بنتاً لألعب معها وأخبرها كل أسراري. وإستجاب القدر لِصلواتي وولدَت شقيقتي بعد بضعة أشهر وسط فرح عامر. وأصبحَت مُنى أهمّ شيء في حياتي أحلم بها في الليل وأفكرّ بها في النهار وأركض لأراها في آخر الأسبوع. ورأيتُها تكبر وتصبح فتاة جميلة وعندما أوشكتُ على إنهاء سنين الدراسة والعودة إلى منزلي بصورة نهائيّة، كان لي مشاريع كثيرة أفعلها مع أختي. ولكنّها لم تكن مستعدّة لمقاسمتي إهتماماتي، أوّلاً بسبب فارق العمر وثانياً لأنّها كانت دائماً حزينة وتحب أن تبقى لوحدها. حاولتُ أن آخذها معي إلى أماكن مسليّة ولكن دون نتيجة.
وقبل أن أستطيع بث البهجة في قلبها، قرّرَ والدي أن عليّ السفر إلى الخارج لأدخل الجامعة وأتخصّص في الهندسة. ولكنّني لم أرضَ وبدأتُ بالصراخ والمعاندة. ولكن وكما العادة فازَ أبي علينا جميعاً وأرسلَني إلى الولايات المتّحدة. وبالطبع بقيتُ على إتصال مع أهلي أسأل عنهم وعن أحوال مُنى بالذات وكان الجواب هو نفسه دائماً:" أختكِ بألف خير". ولم أستطيع زيارة بلدي إلاّ بعد إنهائي لدروسي ونيل الإجازة، فعدتُ بعد حوالي خمس سنوات مُصمّمة هذه المرّة على البقاء نهائيّاً. وكانت مُنى قد أصبحَت في الخامسة عشر مِن عمرها وكان قد زادَت جمالاً وثقة بالنفس. فمِن الفتاة الخجولة المنزوية، صارَت قويّة الشخصيّة تفرض آراءها وتطالب بما تريده نفسها. والأغرب ما في الأمر هو موقف أبي مِن ذلك، فلم يكن يرفض لها طلباً مهما كان. سألتُ والدتي عن الأمر ولكنّها هزّت بكتفَيها لأنّها ومنذ البدء لم يكن لها الحق في التدخّل. وتفرّجتُ على ما كان صعب التصديق، أي مُنى وهي توبّخ أبي وهو يسكت لها ويطلب منها السماح. عندها سألتُها:
ـ ما الذي فعلَه أبي لكي تصرخي عليه هكذا؟
ـ نسيَ أن يشتري لي مجلاّتي الأسبوعيّة.
ـ هذا لم يكن يحصل معي... لم يجلب لي شيئاً سوى هديّة العيد...
ـ لأنّكِ لا تعرفين كيف.. أمّا أنا فلديّ طريقتي الخاصة!
لم أسألها عن تلك الطريقة لأنّني لم أصدّقها، بل إعتقدتُ أنّ أبي كان قد كبرَ في السن ولم يعد له وهرة كما في السابق. ولكنّني كنتُ سعيدة مِن أجلها لأنّها لم تعاني مِن ظُلمه كما حصل معي وتمنّيتُ أن تبقى الحال معه هكذا. ولكنّني لاحظتُ أن والدي كان فعلاً كالخاتم في اصبع مُنى لدرجة أنّه أصبحَ يعطيها مالاً وفيراً أي معظم ما كان يجنيه. وسألتُ نفسي لماذا يفعل ذلك وما حاجة فتاة يافعة إلى كل هذه المبالغ. وقصدتُ والدتي وطرحتُ عليها كل الأسئلة التي كانت تدور في بالي. ولكن لم أستطع معرفة أي شيء وكأنّها تخبّىء عنّي أموراً لا تجروء على الإفصاح عنها. وأمام سكوتها، شعرتُ وكأنّني غريبة عن عائلتي بسبب السنين التي أُبعدتُ فيها عنهم. عندها قرّرتُ أنّه ربما مِن الأفضل أن أرحل مِن جديد وأتركهم يحلوّن مشاكلهم مِن دوني خاصة أنّ الوضع أصبحَ لا يطاق بسبب هيمنَة أختي على باقي أفراد العائلة. لِذا فتّشتُ عن عمل في الولايات المتحدّة عبر الإنترنت حيث وضعتُ سيرتي الذاتيّة وإنتظرتُ أن أجدَ شيئاً يناسبني. ولحسن حظيّ قامَت إحدى الشركات بالإتصال بي وحدّدنا مقابلة عبر السكايب وبعد حوالي الشهر جاء الردّ إيجابيّاً.
ولم أتصوّر أن يأتي يوم وأكون سعيدة للرحيل ولكن ذلكَ حصل فعلاً. وودّعتُ سريعاً عائلتي وطِرتُ إلى حياتي الجديدة دون أن أنظر ورائي. وبقيتُ هناك أكثر مِن عشر سنوات أتصل بأمّي مِن وقت لآخر وأسأل عن أحوال أختي وأبي. ولكنّني عدتُ مسرعة عندما أخبرَتني والدتي أن أبي مات بعدما شُخِّصَ له بمرض خبيث أخذَه بسرعة. ووجدتُ أمّي وأختي في مراسم الدفن جالستَين تتحدّثان وتضحكان وكأنّ الميّت لا يكنّ لهنّ بصلة، فسألتهنّ عن سبب قلّة حزنهنّ، فأجابَت أمّي:
ـ لقد مات... أخيراً!
ـ أمّي! كيف تقولين ذلك؟ أعلم أنّ والدي لم يكن الرجل المثالي ولكن...
ـ أقول لكِ... لقد ماتَ! أخيراً.
ونظرتُ إلى شقيقتي التي أضافَت:
ـ أنتِ محظوظة لأنّكِ كبرتِ بعيداً عنه... الوحش... المجرم! ولكنّه دفع الثمن... جعلتُه يفعل ما أشاء!
ـ مُنى! ما الأمر؟ لا أفهم كلمة مِن الذي تقولينه!
تدخَّلَت أمّي وقالت:
ـ سبب إرسالكِ إلى مدرسة داخليّة مِن قَبِل أبيكِ كان أنّه خاف مِن نفسه عليكِ...
ـ ماذا؟
ـ أجل... لم أكن أعلم أنّه يحبّ التحرّش بالأولاد وإلاّ لما تزوّجتُه! ولكنّني رأيتُه كيف كان ينظر إليكِ وعلِمَ أنّني كشفتُه فأبعدكِ لكي لا يقع في التجربة. وعندما ولِدَت مُنى جعلتُه يقسم لي أنّه لن يلمسها أبداً ولكنّه فعل دون أن أعلم.
ـ يا إلهي!
ـ وكانت أختكِ صغيرة جداً ولم تعلم ما كان يفعله ولم تكن تعرف كيف تعبرّ لي عن الذي يحصل.
ـ لهذا كانت منطوية على نفسها...
ـ أجل... ولكن عندما كبرَت واجهَته وجاءَت إليّ وأخبرَتني بالذي فعلَه بها... أردتُ قتله ولكنّها قرّرَت معاقبته وهدّدَته أن تخبر الجميع عنه وحتى أن تبلغ الشرطة إن لم يكف أوّلاً عن لمسها وأن يعطيها كل ما تريده ثانياً. وطلبَت منّي أن أتظاهر بعدم معرفة شيء... ولكنّكِ جئتِ وبدأتِ بالأسئلة... والأن مات وكل شيء رجعَ إلى مكانه... الآن نستطيع بدء حياتنا.
بكيتُ وعانقتُ أختي وأمّي وقلت لهنّ:" أجل... ماتَ أخيراً.
حاورتها بولا جهشان