كنتُ أعلم أنّ حبّه محرّمٌ عليّ ولكن القلب لا يعرف الحواجز الإجتماعيّة أوالعائليّة ولا يعترف بها. كان صلاح إبن عمي فؤاد، عدوّ أبي اللّدود، ومنذ ما كنتُ صغيرة وأنا على معرفة بهذه العداوة التي أصبحَت جزءاً مِن حياتنا. فوالدي كان يشتم فؤاد أمامنا شبه يوميّاً وبالطبع تعلّم الجميع أن يكرهه. لم أكن أعرف سبب هذا الكره كلّه ولم أسأل خوفاً مِن أن يصبّ أبي غضبه عليّ. ولكن عندما كبرتُ وقعَت عينيّ صدفة على صلاح، الذي كان قد أكمل دراسته في الخارج وعاد ليكون مع أبيه. وعلمتُ أنّني في مأزق كبير. هو أيضاً نظرَ إليّ بدهشة لأنّه لم يتوقّع أن تكون الفتاة الذي عرفَها قد أصبحَت صبيّة جميلة وجذّابة ولكنّه أدارَ وجهه وتابع طريقه.
بقيتُ أيّام أفكّر بوجهه الوسيم وطلّته الجميلة ولكنّني أقنعتُ نفسي أنّ عليّ نسيانه. ومرَّت الأسابيع والأشهر وغاب طيفه عنّي، حتى أن حدث أمر غير متوقّع. في أحد الأيّام وأنا أعبر الطريق، جاءت سيّارة مسرعة وصدمَتني فوقعتُ ارضاً. ورأيتُ رجلاً ينزل مِن السيّارة ويركض للإطمئنان عليّ. الصدفة شاءت أن يكون صلاح هو السائق وبعد أن تأكّد أنّني بخير، أخذَ يعتذر بحرارة وأقنعني أن نذهب إلى المستشفى لإجراء الفحوصات اللازمة. وبعد أن أكّد لي الأطبّاء أنّني بخير، غادرتُ مع صلاح الذي حمد ربّه أنّه لم يقتلني:
- لو حدثَ ذلك، لكانت مصيبة! أنا متأكّدٌ أنّ أباكِ كان قتلني على الفور!
ضحكنا سويّاً، ثمّ تكلّمنا عن أمور عديدة في طريق العودة. سألتُه عن سفره وهو عن حياتي ونزلتُ مِن السيّارة قبل منزلي ببضعة أمتار خوفاً مِن أن يراني أحد معه. شكرتُه وإعتذرَ مرّة أخرى وأضاف:
- أمر مؤسف أن نضطر إلى الإختباء هكذا... لولا تلك المشكلة لدعوتكِ إلى العشاء...
- صحيح هذا...
- هل تعتقدين أنّنا نستطيع على الأقل التكلّم عبر الهاتف؟
- أجل إذا كنّا حريصين...
وتبادلنا أرقامنا وذهبَ كل منا في طريقه. والغريب في الأمر أنّه رغم رضوضي والوجع الذي شعرتُ به مّن جرّاء الحادث، كنتُ سعيدة جداً أنّ سيّارته ضربتني وكأنّ وجوده معي كان البلسم الذي خفّفَ مِن حدّة الصدمة. وبدأنا نتبادل الرسائل الهاتفيّة سرّاً ومع مرور الأيّام، تعرّفتُ إليه أكثر ووجدتُ أنّه الإنسان الذي أحلم أن أكون معه، لأنّنا كنّا متشابهان في العديد مِن الأوجه. ومِن ناحيته، شعر صلاح بأنّه منجزب إليّ بقوّة ولم تعد تمرّ ساعة دون أن نتكلّم مع بعضنا. لاحظَت عائلتي إنشغالي الجديد ولكن لم يشكّ أحد أنّ الشاب الذي أغرمتُ به هو إبن فؤاد وإلّا لَحدثَت مصيبة كبيرة. وبدأنا نتواعد في أماكن بعيدة عن الذين يعرفوننا ولكن في إحدى المرّات رآنا أحد أقرباء صلاح وخفنا كثيراً وإنتظرنا أن يواجهه أبوه ولكن فوجئنا مَن غياب أي ردّة فعل. ثم عاودنا لقاءاتنا وعشنا أياماً جميلة دون أن نفكّر في الغد، حتى أن عرضَ عليّ صلاح أن نتزوّج سرّاً لأنّنا لن نحظى أبداً بموافقة أهلنا. طلبتُ منه بعض الوقت للتفكير، فهكذا قرار قد يأتي بنتائج وخيمة لِكلتا العائلتين.
ولكن بعد فترة، تبيّنَ لي أنّني كنتُ في غاية السذاجة وأنّ تربيَتي الصالحة حجبَت عنّي رؤية الشرّ في الناس. ففي ذات يوم أقنعَني صلاح بأن نذهب إلى الفندق لقضاء بعض الوقت لِوحدنا. لم أكن أريد أن أدخل مكاناً كهذا، فأنا لم أفعل ذلك مِن قبل ولم أتصوّر أبداً أنّ ذلك قد يحصل ولكنّه أصرّ عليّ لِدرجة أنّني خشيتُ أن يغضب منّي وأن يكفّ عن حبّي. وافقتُ أن ألبّي طلبه على شرط ألّا يحدث شيئاً بيننا قبل أن نتزوّج. فقال لي:
- لا أريد شيئاً منكِ ولكنّني سئمتُ الجلوس في السيّارة والإختباء... أريد أن نتكلّم بهدوء سويّاً... لا تخافي، فلَن أفعل شيئاً يمسّ بِشرفكِ فأنا أحبّكِ كثيراً.
وهكذا ذهبتُ معه إلى فندق صغير خارج حدود المدينة. وعندما دخلنا الغرفة وجدتُ قنّينة كحول على الطاولة مع كأسين. وحين سألتُه عنها، أجابَني أنّ لا ضرر في أن نجلس في جوّ مِن المرح والكيف. لَم يعجبني ما قاله، لأنّه كان بعيداً عن الرجل الذي حتى ذلك الحين لم يتكلّم سوى عن الحب والمشاعر. أكّدتُ له أنّني لن أشرب نقطة واحدة مِن تلك القنّينة وإن لم يعجبه ذلك فعليه إعادتي إلى البيت. أخذَني بين ذراعيه وقال لي أنّني لستُ مجبرة على فعل أيّ شيء. ولكن رغم ذلك، لم أعد أريد البقاء. وحين دخلَ الحمّام، إستغنمتُ الفرصة لأفتح الباب وأخرج منِ الفندق. وعندما وصلتُ إلى أسفل المبنى وأخذتُ الطريق المجاور، رأيتُ سيّارة أبي تركن في الخارج. إختبأتُ وراء مكبّ للقمامة وقلبي يدقّ بسرعة. دخلَ والدي ردهة الفندق وبدأتُ أركض كالمجنونة إلى البيت. وصلتُ ونفَسي شبه مقطوع وألقيتُ التحيّة على والدتي وإخوتي ودخلتُ غرفتي وبدّلتُ ثيابي وحملتُ كتاباً. وبعد بضعة دقائق، وصلَ أبي وسأل عنّي. كان غاضباً جداً ولكن عندما رآني أقرأ في سريري هدأ بعض الشيء وذهبَ يجلس مع أمّي. سألتُ نفسي كيف علِمَ أنّني في ذلك الفندق في حين لم أعلم أنّني ذاهبة إلى هناك إلّا قبل دقائق قليلة! عندها شككت بصلاح. هل يُعقل أنّه مَن أطلعَ أبي على مكان تواجدي؟ ولماذا يفعل هذا؟ هنا تذكّرتُ كيف صدمَني صلاح بسيّارته في ذلك النهار وكيف بدأ يكلّمني كل يوم ويواعدني. شعرتُ بغضب كبير في داخلي وإمتلأت عيوني بالدموع. سمعتُ الباب يُقفل وعلمتُ أنّ أبي قد غادر البيت. نهضتُ مِن الفراش وذهبتُ إلى الصالون وجلستُ قرب والدتي وسألتُها دون مقدّمة:
- أمّي... ما سبب الخلاف بين أبي والعم فؤاد؟
- لماذا تسألين؟
- أريد أن أعرف... وعليكِ أن تخبريني فهذا مهمّ جداً. ستعرفين لماذا لاحقاً.
- حسناً... حصل ذلك منذ زمن بعيد... كان أبوكِ وفؤاد شريكين في مؤسّسة أنشآها سويّاً. في البدء كانت مزدهرة جداً، حتى اليوم الذي
إكتشف فيه أبوكِ أنّ فؤاد يلعب بالميسر ويستعمل مال الشركة لتسديد ديونه وإنّهما كانا على شريف الإفلاس. وقرّر والدكِ أن يفضّ الشراكة وأن يأخذ حصّته، أيّ المبلغ الذي يحقّ له وبقيَ فؤاد مِن دون أي شيء. وتراكمَت ديونه، لدرجة أنّه إضطرّ لبيع جميع ممتلكاته. جاء يتوسّل أبيكِ لكي يقرضه مالاً ولكن هذا الأخير رفضَ مساعدته، لأنّه كان يعلم أنّه سيستعمله للعب الميسر. ومِن جراء هذا تركَته زوجته وبقيَ وحده مع إبنه. وبعد فترة وضعَ صلاح في مَيتم للفتيان وبدأ يشرب الكحول وأصبحَت حالته سيئة جداً. لحسن حظّ الولد أنّه نال مساعدة ماليّة مِن مؤسسة خيريّة أرسلَته إلى الخارج لإكمال دراسته. أظنّ أن صلاح لا يعلم الحقيقة وأنّ والده أخبره أنّ أبوكِ سرقه وسبّب له كل هذه المعانات. عندها أخبرتُ أمّي بالذي حصل بيني وبين صلاح. وبعد أن سكتَت مطوّلاً، قالت:
- عاد لِينتقم... أوهمكِ أنّه يحبّكِ لينال منكِ ومِن أبيكِ... حسناً فعلتِ عندما هربتِ من الفندق... أنتِ فتاة صالحة... الآن فهمتُ سبب غضب أبيكِ الليلة... لا يجب أن يعلم أبداً بالذي حصل لكِ وإلّا قتلَ ذلك الشاب... يا للمصيبة...
وعلمتُ بعد أيّام أنّ صلاح غادرَ البلاد وعادَ إلى حيث كان يعيش، بعدما فشلَت خطّته. لزمَني وقتاً طويلاً لأنسى حزني ومرارتي، بعدما وقعتُ في حبّه وتخيّلتُ أنّني سأصبح زوجته. وبعد بضعة أشهر توفيَ العم فؤاد بسبب إفراطه بالشرب وأظنّ أنّ صلاح كان على علم بحالة أبيه وأراد أن يردّ إعتبار أبيه قبل أن يموت.
حاورتها بولا جهشان