كيف وصل بي المطاف بأن أغدو فقيراً، فهذه قصّة طويلة وعليّ بالطبع البدء من الأوّل، أيّ عندما كان لديّ كل ما يتمنّاه المرء. كان لي عائلة محبّة وطيّبة، مؤلّفة من أبّ وأمّ وأخ صغير إسمه نبيل وكبرتُ معهم نتقاسم كلّ شيء، لأنّني بطبيعتي إنساناً كريماً ومحبّاً ولأنّني كنتُ أعتقد أنّ عليّ مساعدة من هم أصغر وأضعف منّي وكان الجميع فخوراً بي ويأخذني مثلاً له. وحلمي الأكبر، كان أن أصبح طبيباً، أريح الناس من آلامها، لذا عملتُ جهدي لكي أنجح في المدرسة وأحصل على العلامات التي تخوّلني دخول الجامعة المناسبة. أمّا نبيل، فكان دائماً يرسب تحت ذريعة أنّ الأساتذة لا يحبّونه ويفعلون ما بوسعهم للإيقاع به. وكان أهلي يصدّقونه وينقلونه من مدرسة إلى أخرى، من دون جدوى حتّى أن توقّف أخيراً عن التعلّم وذهب يساعد أبانا في مصنعه الصغير.
ومرّت السنين هكذا وكبُرَ الفرق بيني وبين شقيقي، حتّى أن ولِد في قلبه كرهاً تجاهي، لأنّني كنتُ أنجح في كلّ شيء أنوي فعله بعكسه تماماً. حتّى في حياتي العاطفيّة، كنتُ أختار الفتيات الحسنوات والناجحات، أمّا هو فكان يعاشر اللواتي تشبهه، أيّ من دون ثقافة أو لياقة.
كنتُ حزيناً له ولكن لم يكن من شيء أفعله له، لأنّه كان من الواضح أنّ طموحه محدود. ولكنّني كنتُ دائماً أساعده ماديّاً بفضل الأعمال الصغيرة التي كنتُ أقوم بها إلى جنب جامعتي ورغم ذلك لم يكن يعتبر ذلك معروفاً، بل واجباً عليّ كوني الأكبر والأنجح.
وأظنّ أنّ لأهلي مسؤوليّة كبيرة لما حصل لنا، لأنّهما كانا يسامحانه على كل شيء ويعطونه دائماً أعذاراً لأفعاله أو كسله. ولم أكن في حينها قادراً على مناقشة قراراتهما لكثرة إحترامي لهما.
وأثناء سنتي الثالثة في الجامعة، أصيبَ أبي بمرض خبيث ولم يستطع نبيل تشغيل المعمل كما يجب وطُلب منّي أن أنقذ الوضع وبسرعة، فإضطررتُ لترك دراستي لإدارة مورد رزقنا الوحيد. وهذا الأمر أغضب اخي كثيراً، لأنّه شعر أنّني أفضل منه بكل شيء، لذا توقّف عن العمل كليّاً وتركني أقوم بالعمل من الصباح إلى المساء، بينما يذهب هو إلى المقاهي لملاقاة من هم مثله، أيّ غير فالحين بشيء. وأصبتُ بالإرهاق بسبب العمل المكثّف ورؤية أبي يتلاشى يوماً بعد يوم وأسفتُ أنّني غير قادر على إنقاذ حياته، لأنّني لم أكن طبيباً بعد.
وبعد ستة أشهر، توفيَ والدي ولبسَت أمّي الأسود وغرقَت بالحزن العميق على رفيق حياتها. أمّا نبيل، فتابع حياته كالمعتاد، معتبراً أنّ والده عاش حياة طويلة وهنيئة على عكسه. ومع أنّني خلتُ أنّ عملي في المعمل كان مؤقّتاً وأنّني سأعود إلى الجامعة بعد فترة قصيرة، وجدتُ أنّ العمل كان سيطول وبدأتُ أستوعب أنّني لن أصبح طبيباً يوماً. وفكّرتُ أنّني ربّما حلمتُ بما هو غير واقعي وأنّ حياتي كانت مقدّرة أن تكون بكل بسطة إمتداد لحياة أبي وجدّي. ولكن الوضع كان سيسوء أكثر، خاصة بعد أن دخل أخي السجن بسبب إشتراكه بعملية سطو على سوبرماركت صغير.
ركضتُ إلى قسم الشرطة وهناك قالوا لي أنّه أقدم مع رفاق له على سرقة المحل وتمّ القبض عليهم وهم فارين. وحين إستطعتُ رؤية نبيل وسألتُه إن كان هذا صحيحاً أجابني:
- أجل... كنتُ بحاجة إلى المال فأنتَ لا تعطيني كفاية.
- أعمل طيلة النهار لجني ما يكفينا لنأكل ونشرب... أنتَ فضّلتَ ترك المعمل والتسكّع مع أولئكَ الشبّان.
- كلّ شيء مسهّل لكَ... أنتَ تجيد فعل كل شيء، أمّا أنا فلستُ فالحاً بشيء...
- سأدفع الكفالة وآخذكَ إلى البيت وإبتداءً من الغد ستساعدني في المعمل... سترى... سأعلّمكَ كلّ ما أعرفه وستصبح أنجح منّي.
وأخرجتُ أخي من السجن حتّى يحين موعد محاكمته وبدأنا العمل سويّاً وكنتُ فرحاً أنّنا عدنا نفعل الأشياء معاً كما في السابق عندما كنّا أولاداً صغاراً وكان حماسي واضحاً وأملتُ أن يفهم نبيل أنّ الحياة تتطلّب عناء وأنّ السهولة ليست دائماً الحل. وبفضل عملنا الدؤوب، بدأنا نجني المال الوفير وإرتحنا ماديّاً وتأمّلتُ مجدّداً بأن أعود إلى الجامعة وحضّرتُ نبيل لأن يأخذ بزمام الأمور وأتيتُ له بعامل لكي يساعده. بينما أذهب للدراسة ولكن حماس نبيل كان مشروطاً بوجودي قربه. فحين غبتُ عنه. عاوده الكسل وبدأ يغيب عن العمل. تاركاً العامل لوحده ليدير الأمور ممّا أدّى طبعاً إلى تراجع ملحوظ بالإنتاج ما أجبرني على العودة.
ولكن هذه المرّة، كنتُ جدّ غاضباً من أخي، لأنّه أفسد عليّ وللمرّة الثانية فرصتي بأن يكون لي مستقبلاً جيّداً. حاولتُ إرجاعه إلى العمل ولكنّه رفض قائلاً أنّه لا يريد هكذا حياة. وبعد أقلّ من أسبوع، أوقف شقيقي مجدّداً بعد أن سرق سيّارة وهذه المرّة لم يقبلوا كفالة. فدخل السجن وعندما جاءت محاكمته عوقِب بقوّة بقضاء سبعة سنين وراء القضبان. وحينها نسيتُ غضبي وحزنتُ له لأنّه كان سيضيّع سنيناً من عمره فقط لأنّه إعتقد أنّه أقوى من القانون. وسجن أخي سبّبَ الأسى العميق لأمّنا، فأصيبَت بالمرض وأُدخلت المستشفى ولكي أستطيع دفع تكاليف معالجتها، أدخلتُ شريكاً معي في المعمل وكانت هذه غلطة كبيرة، خاصةً في مؤسّسة عائليّة كمؤسّستنا. والوضع كان سّيئاً جداً، فأمّي كانت راقدة في السرير في المستشفى وأخي في زنزانة وأنا محتار بين العلم والعمل وخاصة أنّ الشريك الجديد لا يعرف شيئاً عن سير الأمور وكلّ ما أراده هو الإستثمار بمشروع أيّ كان.
وبدأتُ اصاب بنوع من الكآبة وخاصة أنّه لم يكن لديّ أحد ألجأ إليه للحصول على الحنان. فخلال السنين الأخيرة، لم يكن لديّ الوقت لبناء علاقات صداقة أو غرام ونسيتُ أنّ لديّ حياة خاصة وأنّني كنتُ أحبّ أن أكوّن عائلة خاصة بي. وفي آخر المطاف، سئمتُ من كلّ شيء وأخذتُ قراراً كان صعباً عليّ وهو بيع المعمل. لم أعد قادراً على متابعة العمل فيه لا جسديّاً ولا نفسيّاً وأبقيتُ الأمر سرّاً على والدتي خوفاً من أن تسيء حالتها بعد سماع الخبر. وبالمال الذي حصلتُ عليه، إشتريتُ سيّارة أجرة ووضعتُ الباقي في المصرف لعلاج والدتي الذي كان طويلاً ومكلفاً. وأخذتُ أعمل كسائق تاكسي، آخذ الناس من مكان إلى آخر وفي قلبي غصّة كبيرة، فلم أتصوّر يوماً نفسي هكذا، بل مرتديّاً البرنس الأبيض وأجول على مرضاي لأطبّبهم.
ومرّت سنة كاملة هكذا وتوفيّت أمّي المسكينة وموتها سبّب لي الحزن العميق، فكانت أمّاً مثاليّة. ووجدتُ نفسي وحيداً أقضي معظم نهاري وليلي على طرقات المدينة أجوب الشوارع بالركّاب وأسمع قصصهم التي لم تكن شيئاً أمام قصّتي. وجاء يوم وأُفرِج عن أخي قبل الأوان لحسن سلوكه وفرحتُ جداً لأنّ رفيق طفولتي راجع إليّ ولكنّني تفاجأتُ بالرجل الذي وقفَ أمامي. لم أرَ فيه أخي نبيل، بل شخصاً آخراً قاسياً ومتهكّماً. كان السجن قد أثّر عليه من خلال القساوة الموجودة هناك ومعاشرة المجرمين والسارقين وتجّار المخدّرات. ولكنّني أملتُ أن يعود كما كان ونكمل حياتنا سويّاً، لأنّنا كنّا قد أصبحنا لوحدنا. ولكن كانت لنبيل مشاريع أخرى خطّط لها من زنزانته بمساعدة رفاق له هناك وكانت بكل بساطة المتاجرة بالممنوعات. ولكي يفعل ذلك، كان بحاجة إلى المال لشراء البضاعة ورأى فيّ الضحيّة المثاليّة. أوهمَني أنّه قرّرَ الإستقامة وأنّه ينوي البدء من الصفر وأنّه يريد فتح محلّاً صغيراً يبيع فيه بعض السكاكر والأشياء الأخرى، َخاصة أنّه علِم ببيع المصنع وأنّني وضعتُ مبلغاً صغيراً جانباً.
وبما أنّه يحقّ له أن يأخذ حصّته من المؤسسة العائليّة، أعطيتُه ما طلبه منّي ولكنّه لم يفتح محلّاً، بل بدأ يتاجر بالممنوعات ووقع بين أيدي أناس أخطر منه بكثير ولم يستطع منافستهم كونهم متمرّسين ببيع وشراء المخدّرات. وبينما كنتُ أقود سيّارتي طوال النهار، كان نبيل يحاول مجاراة هؤلاء الناس الذين باعوه البضاعة وطالبوه بضعف المبلغ وإلّا قتلوه ورموا جثته في مكان لن يعرفه أحد. ولكي لا يموت أخي، قبلتُ أن أبيع سيّارة الأجرة وأن أعطيه ثمنها. وهكذا لم يعد لي شيئاً أملكه. لا مال ولا عمل ولا مورد رزق وأصبحتُ فقيراً أبحث عن طريقة لدفع الإيجار وثمن أكلي وشربي.
وبعد بحث طويل، وجدتُ عملاً في مقهى، أغسل فيه الصحون وأنظّف المكان بعد الإقفال، ثمّ أعود إلى المنزل لأنام من كثرة التعب لأعاود العمل في اليوم الثاني. أمّا نبيل فإختفى فجأة وأعترف أنّني لم أحاول العثور عليه. فمنذ ما ولِدَ وأنا أهتمّ به وأرعاه وهو أخذَ منّي كلّ شيء. أخذَ طموحي وفرحتي ومستقبلي ومالي وصحّتي ولم يترك لي شيئاً سوى الأسف على ما كنتُ أحلم به وعلى ما أصبحتُ عليه. وأنا اليوم أعيش هكذا أنتظر طلوع الفجر لقصد عملي الشاق والمملّ لكي أؤمّن لنفسي شبه حياة كريمة.
حاورته بولا جهشان