نظرتُ إلى الراكب الجالس إلى يساري فوجدتُه نائمًا، فاستدَرت نحو الراكبة الموجودة إلى يميني وابتسَمتُ لها. كانت الرحلة الجويّة طويلة، وشعرتُ بالملَل حين خُفِّضَت الأنوار ليرتاح الركّاب. إنحنَت جارتي نحوي وقالَت لي:
ـ لا أستطيع النوم، وأنتَ كذلك؟
ـ أجل... هل لدَيكِ مانِع بأن نتحدّث قليلاً؟
ـ بالعكس! دَعني أُعرّفُكَ عن نفسي قليلاً... أنا سكرتيرة في مكتب هندسة، عزباء، ولقد وضعتُ المال جانبًا لمدّة طويلة لأستطيع القيام بهذه الرحلة... فأنا لَم أزُر الولايات المُتحّدة مِن قَبل! أنا مُتحمِّسة جدًّا! سأمكثُ في شمال كارولينا. آه... واسمي تمارا. وأنت؟
- أنا إسمي كريم وأعودُ اليوم إلى عائلتي في أمريكا، لدَيّ زوجة وثلاثة أولاد وأديرُ شركة إستيراد وتصدير. كنتُ لدى والدتي في البلد لأنّها مريضة وأردتُ الاطمئنان عليها شخصيًّا.
ـ والدتي ماتَت منذ خمس سنوات، أتمنّى لأمّكَ العافية الدائمة.
شكرتُها ثمّ تفقَّدتُ جاري الذي كان لا يزال نائمًا نومًا عميقًا. إبتسَمتُ لأنّه بدا لي مُرتاحًا للغاية، ربمّا لأنّه كان شابًّا وهمومه ليست كهموم الذين في سنّي. آه... يا لَيت الزمان يعودُ بي إلى الوراء! أوّل شيء كنتُ لأفعله هو الابتعاد قدر المُستطاع عن التي صارَت لاحقًا زوجتي! أجل، فلقد اقترَفتُ خطأ كبيرًا بالزواج منها وأرجأتُ انفصالي عنها مرّات عديدة مِن أجل الأولاد، إلى حين رضَختُ للأمر الواقع وهو أنّني سأتحمّلها لآخِر أيّامي. فالجدير بالذكر أنّ الطلاق في الولايات المُتحّدة موجِع للغاية وقد أخسر مُعظم ما بنَيتُه. إخترتُ أقلّ الشرَّين، واتّكَلتُ على ربّي في ما يخصّ إدارة حياتي. في الواقع، أشكُّ بأنّ لزوجتي عشيق لكنّني قد أكون مُخطئًا. أمّا بالنسبة لي، فلَم أخُن زوجتي ولو مرّة، مع أنّني بحاجة إلى حبّ وحنان امرأة، لكنّني لن أُشوّه سمعة أولادي والإسم الذي حملتُه مِن أبي وأجدادي. عمَلي كان كافيًا لإعطائي بعض الاكتفاء المعنويّ، وكذلك الشبّان الثلاثة الذين رزَقَني بهم الله.
قطعَت تمارا حَبل أفكاري حين قالَت:
ـ سمِعتُكَ تُكلِّم هاتفيًّا زوجتكَ حين كنّا على وشك دخول الطائرة... هل أنتَ مُتخاصم معها؟ أعذرني على التطفّل لكن علينا أن نتكلّم عن شيء لتمضية الوقت... على كلّ الأحوال لن نَرى بعضنا بعد ذلك، فالولايات المُتحّدة كبيرة فوق التصوّر!
ـ لسنا مُتخاصمَين بل... بل عمَّ الجفاف بيننا على مرّ السنوات.
ـ أفهم ما تقصد... أرجو أن تصطلِح الأمور بينكما قريبًا.
ـ أشكُّ بذلك. قولي لي، هل أنّ جاري على اليسار برفقتكِ؟
ـ لا... لا أعرِفه، لماذا؟
ـ هو نائم منذ أقلعَت الطائرة وبالي مشغول عليه.
عندها قفزَت تمارا مِن فوقي وهزَّت الشاب الذي استفاقَ مذعورًا، ونظَرَ مِن حوله قَبل أن يستوعِب أين هو. قالَت له جارتي مازحة: "صديقي الجديد مشغول البال عليكَ... هو خالكَ ميّتًا!". ضحِكنا كلّنا وعادَ الشاب بسرعة إلى النوم. وبعد ساعات قليلة، هبطَت أخيرًا الطائرة وافترَقتُ وجارَيّ عند استلام الحقائب... بعد أن أعطَتني تمارا رقم هاتفها قائلة وهي تغمزُني: " في حال شعرتَ بالملَل مُجدّدًا!". شكرتُها لكنّني لَم أكن أنوي أبدًا الاتّصال بها. ركبتُ سيّارة أجرة أخذَتني إلى منزلي، حيث لاقَتني زوجتي وكأنّها تُلاقي عدوّها. فبالكاد نظرَت إليّ وبقيَت جالسة على الأريكة تتحدّث عبر الهاتف، وسمعتُها تقولُ: "ها هو قد عاد!"، لكن بنبرة غاضِبة. خرَجَ أبنائي مِن غرَفهم وعانقوني وجلَسنا سويًّا لأخبرهم عن أحوال جدّتهم والبلَد. خلدتُ إلى النوم بعد فترة في غرفتي الخاصّة بعد أن انتقَلتُ إليها منذ سنوات. فلماذا أنام بالقرب مِن امرأة تكرهُني؟ عدتُ في اليوم التالي إلى عمَلي وحياتي المُعتادة بفرَح وترقّب.
لكن بعد أيّام قليلة، تفاجأتُ بتمارا تتّصل بي! صحيح أنّها أعطَتني رقمها، إلا أنّني لَم أُعطِها رقمي! وبعد تبادل التحيات سألتُها كيف علِمَت برقمي وهي أجابَت ضاحكة: "مَن يبحث، يجِد! هاهاها! لقد رأيتُ اسمكَ على اللاصقة الموجودة على حقيبتكَ حين كنّا نستلِم حقائبنا في المطار. لا تغضب منّي، فها أنا أتّصلُ بكَ في دوام عملكَ لأُجنّبُكَ المشاكل مع زوجتكَ! كيف حالكَ؟ أخبِرني كلّ شيء!". للحقيقة انزعجتُ مِن تمارا لأنّها سمحَتُ لنفسها أن تجِدَني وتُخابرَني، في حين لَم أستعمِل رقمها لأُخاطبها. يا للُمتطفِّلة! وتريدُ سماع أخباري؟ لماذا؟ تبادَلتُ معها بضع جمَل وأسرعتُ بإقفال الخط بذريعة أجتماع عمَل على وشك أن يبدأ. فكّرتُ في حظرها إلا أنّني تراجعتُ عن ذلك كَي لا أبدو فظًًّا، ففي آخِر المطاف، كنتُ الذي عرَضَ عليها التحدّث في الطائرة. لكنّني قرّرتُ أن أكون واضحًا معها في حال هي أعادَت مُكالمتي. أنا لَم أكن في وارِد للتعمّق في معرفتي بها على الاطلاق، مع أنّها إمرأة حسناء المظهر، إلا أنّني كنتُ رجُلاً مُتزوّجًا ومُلتزِمًا.
ولدى عودتي مساءً إلى البيت، قالَت لي زوجتي إنّها مُسافرة لثلاثة أيّام مع صديقاتها إلى ولاية ثانية. لَم أتأثّر بذلك طبعًا، فبالكاد كنتُ أراها أو أتبادَل معها الكلام. أمّا هي، فأضافَت: "لا أطيق العَيش معكَ في مكان واحد... وبضع أيّام بعيدة عنكَ ستكون مُباركة. لماذا عدتَ مِن بلدكَ؟ يا لَيتكَ بقيتَ هناك مع أبناء جنسكَ!". هي كانت تعرفُ كَم أنزعِج منها عندما تتكلّم عن بلَدي هكذا، فالكثير مِن الاجانب يعتبرون العرب دون مستواهم، مع أنّ ذلك ليس صحيحًا على الاطلاق! على كلّ الأحوال، كانت زوجتي في قمّة الفرَح حين قرّرنا الزواج، وصارَت تحكي لصديقاتها عن الأسمر الجذّاب الذي ستعيشُ معه لآخِر أيّامها.
سافرَت زوجتي وارتحتُ أنا الآخَر منها، وحضّرتُ برنامجًا كاملاً لي ولأولادي خلال فرصة نهاية الأسبوع، يتضمّن النزهات وزيارة أماكن مُثيرة للاهتمام، والأكل في المطاعم. يا لَيت أمّهم تُقرِّر عدَم العودة والبقاء حيث هي!
أخذتُ الأولاد إلى الولاية المُجاوِرة حيث هناك متحف للأمور الغريبة. المكان كان معروفًا ويقصده العديد مِن الناس، لكنّني لَم أتوقّع رؤية تمارا هناك! ما الذي كان يحصل؟!؟ هل أنّ تلك المرأة تُلاحقُني؟!؟ إنتابَني غضب قويّ، وحين هي رأتني وابتسمَت لي وركضَت إليّ ويدَها ممدودة لمُصافحَتي، صرختُ بها عاليًا: "ما بكِ؟!؟ ألن تتركيني بسلام؟ ما الذي تُريدينه منّي؟ يا لكِ مِن انسانة مُزعِجة!". نظَرَ إليّ أولادي مُستنكرين لهذا الكمّ مِن الفظاظة بينما بدأَت تمارا بالبكاء. ثمّ هي ركضَت خارج المتحف ولحِقَ بها أحَد أولادي ليعتذر منها بالنيابة عنّي. حاولتُ منعه مِن التعاطي معها، إلا أنّ ابني الثاني خرَجَ هو الآخَر. ثمّ عادا ومعهما المرأة وهي تُجفّف دموعها وقالَت لي: "أنا لا ألحقُ بكَ يا أستاذ! أنسيتَ أنّني مُقيمة في هذه الولاية؟ جئتُ إلى هذا المتحف لأنّه مِن أحَد ملامِح المدينة! لِما لَم أقُل لكَ إنّكَ مَن يُلاحقُني؟ أنتَ لا تعيشُ هنا! عَيبي الوحيد هو أنّني أحبُّ الناس والتعامل معهم... لكنّ الكلّ لا يُقدِّر ذلك... سأرحَل الآن ولن تراني أو تسمَع صوتي مُجدّدًا!". شعرتُ بالذنب الشديد وحاولتُ التكلّم، لكنّ أحَد أبنائي قال لها: "لن ترحَلي إلى أيّ مكان بل ستقضين النهار معنا، أليس كذلك يا بابا؟". وافقتُ طبعًا لتُسامحَني تمارا وكذلك أولادي، فمدَدتُ لها يدَي قائلاً: "مرحبا تمارا... نهار جميل، أليس كذلك؟ أنا سعيد برؤيتكِ هنا، لِما لا تُرافقينا اليوم، فلدَينا برنامج شيق؟". إبتسمَت المرأة وقضَينا يومًا جميلاً رحنا خلاله إلى أماكن عديدة، وتناولنا الطعام في باحة واسعة مُحاطين بالمناظر الخلابة. للصراحة، رأيتُ تمارا بشكل مُختلف حين لَم أعُد أعتبرُها إنسانة مُتطفِّلة ومُزعِجة، بل امرأة مليئة بالحياة والحيويّة وتملكُ سهولة كبيرة بالاختلاط بالناس. للحقيقة، هي أضفَت على نهارنا لمسة إيجابيّة بأخبارها العديدة وضحكتها العالية. ولَم نختبِر جميعًا هكذا جوًّا إيجابيًّا منذ فترة طويلة، بسبب طبع ومواقِف زوجتي التي كانت تجِد دائمًا فرصة لبثّ سمّها علينا وتخريب فرحتنا مهما فعلنا.
إنتهى النهار وهبَطَ الليل، فعرضَتُ على تمارا إيصالها إلى فندقها، وقَبل أن تترجّل مِن السيّارة تفاجأتُ بنفسي أقولُ لها: "ما مشاريعكِ بالنسبة للغَد؟ نحن ذاهبون إلى مدينة أخرى تقع في الجَنب الآخَر مِن الولاية. ما رأيكِ لو تُرافقينا؟". إحمّر وجهها ونظرَت إلى الأرض وقالَت: "بكلّ سرور". عدتُ والأولاد إلى البيت، وأعترفُ أنّني افتقدتُ ضحكة تمارا ووجودها معنا. أعرَبَ الأولاد عن اعجابهم بتلك المرأة وهنّأوني لعرضي لها بأن تُرافقنا. نسينا زوجتي كلّيًّا، فلَم يذكرها أيّ منّا على الاطلاق، ولَم نُحاول حتّى معرفة أين هي وإن كانت بخير. نمنا سعداء ومُنهكين خاصّة أنا بعد أن قدتُ مسافات كبيرة، وكنتُ أنتظرُ بشوق لقاء تمارا في اليوم التالي.
النهار الثاني الذي قضَيناه مع تمارا كان أفضل بعد مِن الأوّل، وللحظة خلتُ نفسي زوجها وهي زوجتي ومعنا أولادنا. لكنّني عدتُ واستوعَبتُ أنّ الواقع مُختلف تمامًا، وأنّ زوجتي الحقيقية عائدة بعد ساعات. على كلّ الأحوال، لَم أكن أعلَم إن كانت تمارا تشعرُ بالشيء نفسه، وواسَيتُ نفسي قائلاً إنّها ستعودُ قريبًا إلى حيث حياتها.
عادَت زوجتي مُهدِّدة بعد أن أخبرَها أحَد أبنائي سهوًا عن تمارا وما قُمنا به سويًّا، فصرخَت بي: "سيُسَرّ المُحامي بمعرفة هذه التفاصيل! سأُدمِّركَ، سأُدمِّركَ!". خافَ ابني أن يكون قد اقترفَ خطأ كبيرًا، فسانَده أخوه وبدآ بالصراخ على أمّهما شارحَين لها أنّني لَم أكن أُريدُ تمارا على الاطلاق. لكنّها تابعَت تهديداتها العنيفة ضدّي بأنّها ستجعل منّي رجُلاً فقيرًا بعد أن ترميني في الشارع، وتُجرّدُني مِن كلّ شيء أملكه. عندها قال لها إبني البكر: "إن أذَيتِ والدنا وجرَرته إلى المحاكم، سنشهَد كلّنا ضدّكِ. أجل، فأنتِ التي تخون وليس هو... لقد سمعتُكِ وكذلك أخوَيّ مرّات عديدة عبر الهاتف مع عشيقكِ وكيف تواعدينه بانتظام... حتّى رحلتكِ هذه كانت معه... أتركي أبانا بسلام. فهو رجُل صالح وطيّب، على خلافكِ!". فوجئتُ لسماع هذا الكلام، واحتَرتُ بين الغضب والبكاء لكثرة حبّ أولادي لي. وتراجعَت أمّهم عن موقفها، لكنّها كانت لا تزال مُصِرّة على أذيّتي بأيّ شكل.
في الليلة نفسها إتّصلتُ بتمارا، فمعها كنتُ أضحك وأنسى همومي. وبقينا نتكلّم كلّ ليلة، لكنّنا لَم نلتقِ أبدًا خلال مكوثها في الولايات المُتحّدة كَي لا أُعطي لزوجتي أيّ عذر. سافرَت تمارا إلى البلَد لكنّني قلتُ لها: "سنلتقي مُجدّدًا، أنا واثق مِن نفسي، فعلى ما يبدو كلّ الظروف إجتمعَت لتجمعنا. أرجو أن تكوني امرأة صبورة ومُتفهّمة... هذا إن أردتِ أن نُكمِل ما بدأ مِن تلقاء نفسه". وسمعتُها تُتمتِم: "أجل". فأقفلتُ الخط والبسمة على وجهي.
ومنذ ذلك اليوم، فعلتُ ما بوسعي لأكون رجُلاً حرًّا، فقصدتُ مُحاميًّا بارعًا وسلّمتُه القضيّة. ولَم أنسَ إخباره أنّ لزوجتي عشيقًا طبعًا. هو قال لي إنّ الطلاق سيُكلّفني غاليًا فأجبتُه: "لا ثمَن للسعادة".
حصلَت زوجتي على مرادها، أي نصف ما أملك ولكن بقيَ أولادي معي. على كلّ الأحوال هي لَم تطلب الحضانة، ربّما لتكون حرّة وتعيش مع عشيقها على سجيّتها. زفَّيتُ الخبَر لتمارا وأطلعتُها على خطَطي، أيّ أنّني أنوي الزواج منها وجَلبها إلى الولايات المُتحّدة. فرِحَت كثيرًا، لكنّها أرادَت معرفة رأي أولادي بالموضوع. وهم أرسلوا لها فيديو يقولون لها فيه: "هيّا يا تمارا، نحن بانتظاركِ!". حضّرتُ كلّ شيء مِن أجل عروستي، مِن أوراق رسميّة وترتيبات في البيت، بما فيها إزالة أيّ أثَر لزوجتي. تزوّجنا وسط فرحة كبيرة وأنا لا أزال أسأل نفسي كيف أنّ حديثًا بسيطًا في الطائرة أدّى إلى قلب حياتي هكذا. صحيح أنّ تمارا هي التي إتّصلَت بي أوّلاً وهي التي ظهرَت أمامي في المتحف، لكن الصدَف فعلَت ذلك. إلا أنّ هناك شيئًا واحد يُقلقُني ولا أدري إن كانت الصدَف أيضًا هي المسؤولة... فمنذ أسبوع حين كنتُ مع أحَد أبنائي في السوبر ماركت، لمحتُ الشاب نفسه الذي كان نائمًا إلى يساري في الطائرة! أخبرتُ إبني مَن يكون وإذ به يُجيب: "كان في المتحف في ذلك اليوم... أتذكّره جيّدًا بسبب ملامحه الشرقيّة!".
هل عليّ أن أشغِل بالي بالموضوع أمّ نسيانه؟
حاورته بولا جهشان