يا لَيتني لم أقنع أمّي بالزواج مجدّدًا، ولكنّني كنتُ أعلَم كم عانَت مِن أبي وطغيانه، ورأيتُ كم أنّ حياتها باتَت فارغة بعد موته ورحيلي أنا وأخي.
في البدء مانعَت كثيرًا قائلة إنّها لن تتحمّل صدمات إضافيّة، إلا أنّني أقنعتُها بالمحاولة:
- يا ماما... الرّجال ليسوا كلّهم مثل أبي، رحمه الله... زوجي رجل صالح ومحبّ وكذلك هو أخي مع زوجته... كان حظّكِ سيّئًا مع والدي إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الأمر سيتكّرر... لقد أصبَحتِ أكثر خبرة ويُمكنكِ اختيار الشريك المناسب... إلى جانب ذلك، أنتِ امرأة جميلة وجذّابة وألف رجل يتمنّاكِ!
نَظَرَت أمّي إلى نفسها في المرآة وقالَت:
- أنا جميلة وجذّابة؟
- أجل يا ماما!
- وأين سأجد عريسًا؟ لا أخرج مِن البيت إلا لشراء حاجاتي وليس لدَيّ إلا القليل مِن المعارف.
ولأنّ بنظري كلّ شيء مقدّر لنا، تعرّفَت أمّي إلى نبيه في السّوبر ماركت، وفي جناح الخضروات بالتحديد حين أمسكا الصّنف نفسه وفي الوقت نفسه.
ضحِكا للأمر وبدآ يتحدّثان عن كيفيّة تحضير الأكل ووجدا أنّهما أرملان ووحيدان. وهكذا تغيّرَت حياة والدتي، أي في أبسط الأماكن وبأبسط الطرق.
كان نبيه طويل القامة ووسيمًا، عاش سنوات لوحده بعد وفاة زوجته وزواج ابنته ورحيل الثانية للعيش قرب جامعتها. وحين أخبرَتني أمّي أنّها وجَدَت مَن يواسيها ويُعطيها الحنان الذي افتقَدَته مع أبي، كدتُ أن أطير مِن الفرح وأسرَعتُ بإخبار أخي الذي شاركَني شعوري.
تعرَّفنا إلى العريس ووجدناه مناسبًا جدًّا، وحصَلَت أمّي على بركتنا التي لم تكن لتوافق مِن دونها. وبعد ثلاثة أشهر على لقائهما، تزوّجَت أمّي مِن نبيه وارتاحَ بالي عليها أخيرًا.
وبدأنا نجتمع وقت الأعياد ومعظم نهاية الأسبوع، وسرعان ما صار زوج أمّي فردًا مِن عائلتنا. كنتُ أودّ التعرّف إلى ابنتَيه ولكنّ الكبرى كانت قد سافَرت مع زوجها إلى الخارج، والثانية تحضّر لأطروحتها الجامعيّة أيضًا في بلد آخر، ولم تتمكّنا مِن حضور الفرح بسبب إقامته بصورة مفاجئة.
صحيح أنّ العروسَين كانا قد استعجلا الاقتران ببعضهما، ولكن هل بإمكاني لومهما بعد أن وجدا بعضهما أخيرًا؟ إلى جانب ذلك، لم يكن مِن الضروريّ لهما أخذ المزيد مِن الوقت لكثرة خبرتهما بالحياة.
ومرَّت الأيّام بهدوء وأنجَبتُ ولدًا وكنتُ سعيدة بكلّ الأمور التي تحصل معنا، فلم تكن طفولتي سهلة وسط مناخ عائليّ يسوده التوتّر بسبب طباع أبي الصّعبة. عشنا بقلق دائم وخوف مِن التوبيخ والصراخ وأحيانًا الضرب، فتخيّلوا فرحَتي لِما آلَت إليه أحوالنا.
ولكنّ الصّدف شاءَت أن أرى ذات يوم زوج أمّي برفقة صبيّة. كان يمشي معها وكانا يتحدّثان على ما يبدو بأمر مهمّ لأنّهما كانا يومئان بأيديهما. أوقَفتُ سيّارتي بالقرب منهما وإذ بهما يدخلان مبنى قديمًا. ولولا شكل تلك الصبيّة لما انشغَلَ بالي، ولكنّها كانت ترتدي ملابسًا توحي بمهنة معيّنة: البغاء.
هل يُعقَل أن يكون نبيه مِن الذين يقصدون المومسات؟ وجدتُ ذلك صعب التصديق، لأنّه كان انسانًا هادئًا ومهذّبًا ولطيفًا، وفوق كلّ شيء مؤمنًا، ولكنّ تلك الفتاة كانت بلا شك تبيع محاسنها لمَن يُريد شراءها.
ولأتأكّد مِن الأمر، ترجَّلتُ مِن سيّارتي، ودخَلتُ المبنى، وقَرَعتُ باب الناطور وسألتُه عن الصبيّة فقال لي:
- آه... الآنسة يُمنى... إنّها مميّزة.
- ماذا تقصد بذلك؟ هل هي...
- أجل سيّدتي... هي كذلك... المسكينة، أشفقُ عليها لأنّها انسانة طيّبة ولطيفة... لربّما مرَّت بظروف أجبَرَتها على القيام بما تفعله.
- وماذا عن الرّجل الذي دَخَلَ معها منذ دقائق؟
- يأتي دائمًا لزيارتها ويهتمّ بها. يشتري لها الحاجيّات ويرحل بعد أن يقضي ساعة أو اثنتَين معها.
هكذا إذًا... زوج أمّي يخونها مع مومس بعمر بنتَيه! وقَعتُ بحيرة مِن أمري، فلم أكن أريد اخبار أمّي وإحزان قلبها لأنّ المسكينة كانت سعيدة مع ذلك الخائن. ولكنّني مِن جهّة أخرى لم أكن قادرة على السكوت، خاصة أنّني التي أقنعَتها بإيجاد شريك لها.
لِذا ارتأيتُ أنّ الحلّ الوحيد هو التكلّم مع نبيه وحمله على الكفّ عن الذي يفعله وإلا أخبَرتُ والدتي بالأمر. إنتظَرتُ حتى الصّباح، وقصدتُه في مكان عمله، أي بعيدًا عن أمّي. في البدء أنكَرَ كلّ شيء طبعًا، ولكن بعدما رأى أنّني أملك كلّ الدلائل، إضطَرَّ إلى الاعتراف ولكن ليس بالذي توقَّعتُه:
- صحيح أنّني أذهب إلى يُمنى... صحيح أنّني أهتمّ بها... وصحيح أنّها مومس، ولكنّها ليست عشيقتي.
- ماذا تقصد؟ ولما تزورها؟
- لأنّها ابنتي.
- ماذا؟؟
- أجل، إبنتي الصّغرى... قلتُ لكم إنّها تحضّر أطروحتها في الخارج لأنّني لم أكن قادرًا على قول الحقيقة... إسمعي... لقد هَرَبَت يُمنى مِن البيت مِن خمس سنوات، أي عندما ماتَت والدتها، فهي لم تتحمّل الصّدمة... بحثتُ عنها في كلّ مكان حتى اتصلَت بي أخيرًا وطلبَت منّي أن أتركها وشأنها لأنّها تريد العيش كما يحلو لها... لم أستطع تغيير رأيها ولكنّني على الأقل علِمتُ أنّها بخير... ولم أعد أسمع منها شيئًا إلى حين وجدتُها صدفة... وكم كانت خَيبتي كبيرة عندما علِمتُ أنّها أصبحَت مِن اللواتي تبعنَ أجسادهنّ... فعلتُ المستحيل لإعادتها إلى الطريق السليم ولكن مِن دون جدوى... لِذا أخَذتُ على عاتقي الاهتمام بها إلى أن أنجح في استردادها... لن أفقد الأمل أبدًا، فهي أميرتي الصّغيرة.
- أنا آسفة... لم أكن أعلم.
- أرجوكِ ألا تخبري أمّكِ، لا نريد إزعالها... وهذه ليست مشكلتها ولا ذنبها... أنا على علم بما عانَته مع أبيكِ، فلا داعٍ لإعادتها إلى الحزن والقلق.
- لا تخف، لن أقول شيئًا لأيّ كان.
إمتلأ قلبي بالحزن على ذلك الرجل الذي يحمل سرًّا كبيرًا ويُحاول بشتّى الطرق انتشال ابنته مِن الضياع والخطيئة، وشعَرتُ بالذنب لأنّني ظنَنتُ به سوءًا.
صِرتُ أسأل نبيه عن يُمنى بين الحين والآخر، وكان يقول لي إنّه لم يُحرز أي تقدّم معها. ولكثرة رغبتي بمساعدة يُمنى بحثتُ لها عن مؤسّسة تُعنى بإعادة تأهيل الفتيات اللواتي وقعنَ ضحيّة عالم البغاء، وأعطَيتُ العنوان لنبيه بعد أن طمأنتُه إلى أنّ انجازات تلك المؤسّسة تبشر بالخير. شكَرَني الرجل بعد أن امتلأت عَيناه بالدموع، عندها علِمتُ أنّ أمّي بين أيدٍ أمينة، فمَن يخاف ويحزن على ابنته هكذا يعلم كيف يُحبّ زوجته ويُكرّمها.
ولكن يُمنى لم تقبل دخول المؤسّسة، ربمّا لأنّها مستاءة مِن أبيها بعدما تزوّج مِن جديد، فخطَرَ ببالي أن أتّصل بأختها الكبرى على أمل أن تستطيع التأثير عليها. لم أطلب مِن نبيه رقم هاتفها أو معلومات عنها لأنّني خفتُ أن يقول عنّي أنّني متطفّلة، لِذا بحثتُ عن سامية على الفيسبوك، المكان الذي يوصل الناس بعضهم. ونجَحتُ بإيجادها تحت اسمها قبل الزواج وتعرَّفتُ إلى صورتها لأنّها تشبه أباها كثيرًا. بعَثتُ لها طلب صداقة فقبلَته، ومِن بعدها رسالة أعتذر فيها عن تدخّلي بشؤون عائليّة بحتة، وأخبرتُها أنّني على علم بمهنة أختها وأنّ عليها إقناعها بالالتحاق ببرنامج المؤسّسة بعدما فشَلَ أبوها بذلك. وهذا كان ردّها:
- أشكركِ على اهتمامكِ ولكن ليس لدَيَّ أخت فأنا ابنة وحيدة... لم أستغرب حديثكِ عن تلك المومس، فلطالما كان أبي يهوى هذا الصّنف مِن النساء، الأمر الذي أوقَعَ أمّي في يأس لا مثيل له... ربمّا لم يذكر أبي لكم ظروف موتها لأنّها أنهَت حياتها بنفسها بعدما غَرِقَت بالاكتئاب لكثرة حبّها لزوجها وخيبة أملها به... لقد قطَعتُ الصّلة بيني وبينه لكثرة غضبي واشمئزازي منه ولم أشأ طبعًا حضور زفافه... نصيحة منّي لأمّكِ التي هي بلا شك إنسانة شريفة لأنّها أنجَبت ابنة مثلكِ تهتم بالآخرين وتسعى إلى مساعدتهم: قولي لها أن تتركه وبأسرع وقت قبل أن تفقد ثقتها بالناس وبالحياة.
قرأتُ رسالتها عشر مرّات لأتأكّد مِن الذي رأته عينايَ، وفي كلّ مرّة كانت الكلمات تتوضَّح أكثر وأكثر. الرّجل الذي تزوّجَته أمّي كان كاذبًا ومحتالاً ومنحلاً أخلاقيًّا وكان عليّ أن أتصرّف. المشكلة كانت كبيرة، لأنّ والدتي كانت ستُصدَم حتمًا بعدما نسيَت مع نبيه مآسيها مع أبي، لِذا قصَدتُ مِن جديد ذلك السافل وقلتُ له إنّني على علم بكلّ شيء. لم يجد ما يقوله فبقيَ صامتًا. عندها تابَعتُ:
- إسمع أيّها الكاذب... لن أسمَحَ لكَ بتحطيم قلب أمّي فإليكَ ما سنفعله: ستقول لها إنّكَ مسافر إلى ابنتكَ الكبرى لفترة غير طويلة وبعد أسابيع سأقول لها إن خبَرَ موتكَ وصَلَ إليَّ... نعم ستموت، صُوريًّا... إذهب حيث تشاء ولكن ابتعد عنها، أفهمت؟ لا تقصد الأماكن التي ترتادها أمّي أبدًا!
- ولكنّكِ بذلك ستسبّبين لها الحزن أيضًا.
- صحيح، ولكن أن تعرف أنّكَ متَّ وأنتَ تحبّها ومخلص لها، أفضل بكثير مِن أن تدرك حقيقتكَ البشعة... أترك الأمر لي فأنا أعرف كيف أواسيها.
ودَّعَ نبيه أمّي ليذهب إلى ابنته. وبعد أيّام قليلة قالت لي والدتي:
- حبيبتي... لا أعلم كيف أقول لكِ ذلك ولكن... نبيه ليس الرّجل الذي أريده في حياتي... لستُ غبيّة... أعلم أنّ لدَيه أحدًا... عندما يعود إلى البيت أشمّ عليه رائحة عطر، ووجدتُ أكثر مِن مرّة آثار أحمر شفاه على قمصانه... إلى جانب ذلك، مِن السّهل على الزوجة أن تكشف أنّ لزوجها علاقات... أريد تركه، ولكنّني أخاف أن أخيّب أملكِ فكنتِ جدّ متحمّسة لتزويجي... سامحيني.
عانقتُها بقوّة وهمستُ في أذنها: "بالعكس يا ماما... لو تعلمين كم أنا فرحة!" وركَضتُ أتصل بنبيه لأقول له إنّ عليه العودة مِن سفره المزعوم لتتمكّن أمّي مِن تركه، ولا حاجة له بالادعاء بالموت.
وأغرب ما في الأمر أنّ والدتي لم تحزن كثيرًا على زوجها، ربمّا لأنّ الحياة علّمَتها أنّ هناك ما هو أهمّ مِن الحياة الزوجيّة، فسلامة الأولاد وسعادتهم تفوق الفرحة التي يُولّدها حبّ أكبر رجل.
حاورتها بولا جهشان