حين تعرّفتُ إلى رامي كان لا يزال مُتزوّجًا. هو الذي أقنعَني بحبّه، فأنا كنتُ أرفضُ فكرة مُعاشرة رجُل مُتزوّج. إلا أنّه أخبرَني بحالة زوجته التي أُصيبَت بداء السرطان ولَم يتبقَّ لها سوى القليل لتعيشَه. أسِفتُ لها حقًّا إذ كان مِن الواضح أنّها سيّدة خلوقة وزوجة وأمّ مُتفانية. قاومتُ رامي لأشهر إلى حين قبِلتُ أن أصبحَ يومًا زوجته، أّيّ حين تموت المسكينة. شرطي له كان ألا تعرفَ زوجته أبدًا بعلاقتنا، فمرضها كان عذابًا كافيًا لها. تواعدنا سرًّا، وكان رامي يستمتعُ بتلك السرّيّة وكأنّه مُراهق. أمّا مِن جانبي، فكان لدَيّ إمتعاض دائم. ففي آخر المطاف، كنّا نغشّ تلك الزوجة المسكينة.
تعرّفتُ إلى إبن حبيبي حين جلبَه معه ذات يوم ووجدتُه لطيفًا، إلا أنّه كان حزينًا وبالكاد يبتسمُ بسبب حالة أمّه. فبالرغم مِن سنّه الصغير، إستوعَب أنّ والدته في حالة صعبة. لا أدري إن كان رامي قد أخبرَه أنّها ستموت قريبًا ورجَوتُ أنّه لَم يفعَل.
بعد سنة تقريبًا على تعرّفي إلى رامي، دخَلت زوجته المرحلة الأخيرة وتفاجأتُ بهدوئه. فكنت أتصوّر أنّه سيكون حزينًا ومهمومًا لأنّه سيخسرُ رفيقة وحبيبة وزوجة، خاصّة أنّه كان قد أخبرَني كَم أنّه أحبَّها في ما مضى وأصرَّ على الزواج منها، بالرغم مِن أهلها الذين كانوا يُريدون تزويجها من شخص آخر. هو الذي فازَ بها بفخر وإعتزاز، ووعدَها بأن يكون وفيًّا لها حتى النهاية. أتذكّرُ أنّني فكّرتُ مليًّا بلامبالاة حبيبي في ما يخصّ قرب مُغادرة زوجته هذه الدنيا، ووجدتُ الأمر غير لائق على الإطلاق. وكان يجدرُ بي تركه آنذاك على الفور، لكنّني كنتُ مُغرمة به كفاية لتقبّل تقريبًا كلّ شيء منه. على كلّ الأحوال، عاملَني رامي بطريقة مُمتازة ولَم يُعطِني أيّ سبب للإبتعاد عنه.
يوم علِمتُ بموت الزوجة بكيتُ حزنًا عليها. فكان قد نشأَ بيني وبينها رابط لا أستطيع تفسيره، ربمّا بسبب إطّلاعي بشكل يوميّ على حالتها الصحّية وآلامها وكلّ كلمة وحركة قامَت بها. شعرتُ أنّني أعرفُها جيّدًا وأنّني خسِرتُ شخصًا مُقربًّا منّي. أمّا رامي، فتعاملَ مع الوضع ببرودة تامّة، وأوّل شيء قالَه لي: "الآن صرنا قادرَين على عَيش حبّنا علَنًا، فلقد ماتَت زوجتي". هو لَم يبكِ، بل العكس. وكانت تلك فرصتي الثانية لإنهاء علاقتي به، إلا أنّني لَم أفعَل.
بدأنا نُخطّط لزواجنا، وقرّرنا أن ننتظر قليلاً مِن أجل الناس وأن نُقيمَ فرحًا بسيطًا. صرتُ أرى إبن رامي بانتظام ليعتادَ عليّ قليلاً، وأعطَيتُه الحنان الكافي ليجتاز، ولو جزئيًّا، مِحنة موت أمّه. ووعدتُ رامي بأنّني لن أُطالبه بالإنجاب إلا حين يتخطّى إبنه فاجعته كلّيًّا.
تزوّجنا وعشنا في البيت نفسه، ولَم نُغيّر شيئًا فيه سوى السرير الزوجيّ. أزالَ رامي كلّ صوَر زوجته، إلا أنّني أصرَّيتُ لإبقاء الصوَر الموجودة في غرفة إبنه، فكان يحقُّ له أن يتذكّرها. حزنتُ مرّة أخرى كيف أنّ زوجي أرادَ أن يقتلِعَ ذكرى زوجته مِن كلّ مكان. صحيح أنّه عانى معها ومِن مرضَها، ولكن أين ذهَبَ حبّه لها والسنوات السعيدة التي قضاها معها؟
حياتي مع عائلتي الجديدة كانت جميلة، فكنتُ أذهبُ إلى عمَلي في الصباح ورامي إلى شركته والولَد إلى مدرسته، لنلتقي جميعًا في المساء. لا مُشاجرات أو مناكفات أو حتى أيّ إنزعاج ولو بسيط. ومع الوقت، زالَ حزني وشعوري بالذنب حيال زوجته المتوفّاة، وبدأتُ أستمتِع بالحياة الزوجيّة كما يجب. أهلي، الذين لَم يُوافقوا على زواجي مِن أرمل له إبن، بدأوا يعتادون على الفكرة خاصّة بعدما رأوني سعيدة، فأحبّوا رامي وقبِلوا به في عائلتنا وكذلك الصغير. وأستطيعُ القول إنّني كنتُ بالفعل أعيشُ حلم كلّ إمرأة... قَبل أن تنقلِبَ حياتي رأسًا على عقَب.
فبعد سنتَين على زواجي مِن رامي، شعرتُ بوجود كُتلة في صدري الأيمَن. خفتُ كثيرًا، كما قد تفعلُ أيّ إمرأة أخرى، وأقنعتُ نفسي بأنّ لا خطَب بي، خاصّة أنّني كنتُ إمرأة شابّة ونشيطة وأتمتّعُ بصحّة حديديّة. أخبرتُ والدتي بالأمر، وبعد حديث طويل، أقنعَتني برؤية طبيب وإجراء الفحوصات اللازمة، على الأقلّ ليطمئنّ قلبي، خاصّة أنّني كنتُ قد قرّرتُ أنّ الوقت حانَ للإنجاب.
رحتُ المشفى مع أمّي، وخضعتُ لكلّ ما يلزم مِن فحوصات، وانتظرتُ النتيجة. لَم أقُل شيئًا لرامي، فلا داعٍ لإشغال باله مِن دون سبب، ألا يكفيه ما مرَّ به في زواجه الأول؟ نسيتُ موضوع صدري لبضعة أيّام، فكان مِن المُستبعد جدًّا أن تكون الكتلة خبيثة لغياب سوابق عند نساء عائلتي.
وجاءَت النتيجة التي لا ترحَم: كنتُ بالفعل مُصابة بداء السرطان! أخفَيتُ الخبر عن زوجي مِن دون أن أُدرك أنّه سيعرفُ به في آخر المطاف، إذ كان عليّ الخضوع لجلسات كيميائيّة، ومَن يدري ربما إلى عمليّة استئصال للورَم. لكنّ أمّي سبقَتني في ذلك وشكَت له عن خوفها عليّ. وذات مساء، قال لي رامي:
ـ لماذا أبقَيتِ مرضكِ مخفيًّا عنّي؟ ألستُ زوجكِ؟
ـ حبيبي... لَم أجرؤ على إحزانكَ وإشغال بالكَ عليّ بعد ما مرَرتَ به مع زوجتكَ الأولى. لكن لا تخَف، إصابتي سهلة المُعالجة وسرعان ما سأتعافى.
واكتفى رامي بالقول:" أعلمُ ذلك، أعلمُ ذلك". لكنّ وجهه كان يدلّ على همّ كبير. فهمتُ وضعه في ما يخصّ ذلك الداء الرهيب، لِذا أخذتُ على عاتقي التسلّح بالشجاعة، وإبراز بسمة دائمة والكثير مِن التفاؤل حتى حين بدأ شعري بالتساقط.
حظيتُ بعاطفة خاصّة مِن قِبَل إبن زوجي الذي كان قد تعلّقَ كثيرًا بي واعتبرَني أمًّا فعليّة له. طمأنتُه هو الآخر لأنّ شكلي أخافَه، لِذا رحتُ أوصي مُصفّف الشعر على باروكة لأبدو بشكل أفضل. للحقيقة، هذا الجهد الإضافيّ أعطاني عزيمة كبيرة، فلَم يكن مِن الوارد أن أستسلِم. ألَم أكن أُريدُ إسعاد زوجي وابنه وإنجاب طفل؟
في الفترة نفسها، بدأ رامي يغيبُ عن البيت. وحسب قوله، كان مشغولاً في الشركة بملفّات كبيرة، وردَدتُ الأمر إلى خوفه على مصيري. فلا بدّ مِن أنّه خافَ أن يفقدَ زوجة أخرى. لَم أُعاتِبه لأنّه تركَني ساعات طويلة لوحدي مع إبنه خلال الليل، وصلَّيتُ كي يُعطيني الله العافية بأقرب وقت.
لكن عندما صارَ يرنُّ هاتف زوجي ولا يردُّ على الإتّصال أمامي، بدأتُ أُفكّر بتفسيرات أخرى لغياباته عن البيت. هل يُعقَل أن يكون رامي قد بدأ يُفتّشُ عن غيري كما فعَلَ خلال مرَض زوجته الأولى؟ لا، لانّني وبكلّ بساطة، كنتُ قد صرتُ تقريبًا في نهاية علاجي، وطمأنَني الطبيب على حالتي وتجاوبي مع الجلسات.
لكنّني إنتَبهتُ يومًا إلى الرائحة التي فحَّت مِن زوجي حين عادَ مساءً مِن "مكتبه"، وكان مِن الواضح أنّه عطر نسائيّ. عندها إنتابَني مزيج مِن الخوف والغضب والإستنكار: هل كان رامي قد وضعَني على قائمة الميّتين وأنا لا أزال حيّة؟!؟ وتذكّرتُ أنّني في مرحلة ما، كنتُ مكان تلك المرأة التي تركَت أثر عطرها على رامي. هل أنّ ما يحصلُ لي هو عقاب إلهيّ؟
كان بإمكاني مواجهة زوجي على الفور، إلا أنّني أرجأتُ المعرفة بخيانته لي إلى أجَل غير مُسمّى. ومِن جرّاء ذلك، إنتكسَت حالتي، الأمر الذي شغَلَ بال طبيبي. رامي هو الآخر أبدى إستغرابًا لِما يحصل... يا للمُمثِّل البارع! لكنّ إبنه هو الذي حمَلَني على الوقوف مُجدّدًا في وجه مرَضي يوم قال لي:
- أرجوكِ يا ماما، لا تموتي! لن أتحمّل فقدانكِ أنتِ الأخرى! أُصلّي كلّ يوم مِن أجلكِ وأرجو أن يستجيب الله لي.
قبّلتُه بقوّة ووعدتُه بأنّني سأنتصِر على المرض. وبعد فترة، عدتُ إلى عافيَتي وإلى إصراري على الحياة. تبًّا لأيّ إنسان سيشدُّني إلى الوراء مهمَن كان! يُريدُ رامي إستبدالي، فليكن! لِذا قرّرتُ أن أسأله بكلّ بساطة إن كان على علاقة مع أحد، وهذا ما أجابَه:
ـ بالفعل، لكنّني لَم أرِد أن تعرفي بالأمر.
ـ أليس لدَيكَ ذرّة أخلاق في جسدكَ؟!؟ لَم أمُت بعد يا عزيزي وقد أعيشُ حياة أطوَل مِن حياتكَ!
ـ سمّي الأمر كما تُريدين... فأنا لا أستطيع تحمّل المرَض والموت.
ـ لكنّني شفيتُ! وماذا لو أنتَ أُصبتَ بداء خطير، هل يجوزُ أن أجِد غيركَ؟
ـ كلّ إنسان يفعلُ ما يشاء. وبما أنّكِ تجزمين إنّكِ شفيتِ، فسأقطَعُ علاقتي مع الأُخرى.
ـ لا، لا تفعل، بل إبقَ معها، فلا أستطيع أن أستمرّ بحبّكَ بعد الآن أو حتى تحمّل وجودكَ معي. إرحَل وخُذ أمتعتكَ معكَ لكن أترك لي إبنكَ، ولن أطلبَ مالاً منكَ فأستطيع الإهتمام به بفضل راتبي. إذهب وعش حياتكَ مع مَن تشاء. آه... لو علِمتُ ما ينتظرُني معكَ لَما فكّرتُ بالإرتباط بكَ أبدًا! الزواج، يا أستاذ، هو للسرّاء والضرّاء وأنتَ فشلتَ في فهم هذا المبدأ. نصيحة منّي، لا تتزوّج مِن بعدي بل إبقَ عازبًا تنتقِل مِن إمرأة لأخرى، فمَن يدري، قد تُصاب إحداهنّ بمرض ما. لكن إحذَر أمرًا: سيأتي يوم وتشيخ ولن تجد أحدًا إلى جانبكَ. فأنا تعلّمتُ الدرس أمّا أنتَ فلا تزال تتجاهلُ العدالة الالهيّة.
بقيَ الولد معي فكبرَ وأصبَحَ شابًّا وسيمًا ومُتعلّمًا. هو لَم يقطَع علاقته بأبيه، لكنّه لَم يتقرَّب منه خاصّة بعدما أدركَ أيّ صنف مِن الرجال هو. لَم أتزوّج مُجدّدًا ولَم أُنجِب لكنّني سعيدة. نظِفَ جسديّ كلّيًّا مِن المرَض وأنا بصحّة ممتازة. أمّا رامي، فعلاقاته عديدة وغير مُثمرة، ليس بسبب قلّة السيّدات الخلوقات، بل لأنّه رجُل غير مُستقرّ عاطفيًّا ونفسيًّا. وأنا مُتأكّدة مِن أنّ نهايته ستكون بشعة للغاية. فكما تُعامِل تُعامَل!
حاورتها بولا جهشان