بدل أن أقضي طفولتي باللعب والمرح وعدم المبالاة، أُصبتُ منذ صغري بِداء مؤلم. بدأَت الأمور بارتفاع دائم لِحرارتي ما استلزمَ زيارات عديدة عند طبيب لم يحسن التشخيص وألقى اللوم على نوع مِن الفايروس. ولكنّ العلاجات لم تنفع حتى أن ظهَرَت على جلدي طفرة مريبة امتدَّت مِن عنقي حتى أسفل رجليّ. عندها خضعتُ لِتحاليل معمّقة وتبّينَ أنّني أعاني مِن التهاب في المفاصل.
كان عمري ثلاث سنوات. وأصبحَت حرَكتي مؤلمة ولم أعد قادرة على القيام بأمور عديدة كاللعب والركض أو حتى الجلوس وقتاً طويلاً. وحلّي الوحيد كان دواء عليّ أخذه طوال حياتي وحِقَن في المفاصل لِسنين عديدة. وقيل لي أنّني لن أشفى مِن ذلك المرض المزمن. وكبرتُ وسط الألم والحقَن والأطبّاء. وكي لا أعيش منعزلة كانت أمّي تأتي لي بأولاد الحيّ ليَلعبوا معي ولكن سرعان ما ملّوا منّي واختفوا.
أيّام الدراسة كانت قصيرة بِسبب عدم تمكنّي مِن متابعة الدروس بِشكل منتظم وكثرة غياباتي أثّرت على علاماتي وانتقالي مِن صفّ إلى آخر. لِذا فضّل أبي أن آخذ دروساً خصوصيّة آملاً أن أنال بعض المعلومات المفيدة. وبدأتُ أعتاد على الألم والعلاج ووجدتُ مهرباً في القراءة حيث كنتُ أشعر أنّني أزور أماكن وأفعل أشياء غير ممكنة في حالتي. وكانت لدَيّ هواية أخرى وهي الرسم. فبدأتُ أرسم أبطال الروايات التي أقرأها وأعطيهم شخصيّات مختلفة وأكمل القصص حسب ما أشاء.
وحين بلغتُ الثامنة عشر بدأتُ أشعر بانجذاب للشبّان خاصة لِفؤاد جارنا. كان يكبرني بِبضع سنوات وكنتُ أراه يمّر أمام بيتنا عندما كنتُ أجلس على الشرفة. ولكنّه لم ينظر ولو مرّة نحوي حتى عندما ألقَيتُ عليه التحيّة في ذاك مرّة. عندها بدأتُ بالبكاء والتجأتُ إلى أمّي وسألتُها إن كنتُ قبيحة. وعندما أكّدَت لي أنّني بغاية الجمال سألتُها لماذا لا ينظر إليّ جارنا. اخترعَت جواباً غير مقنعاً وأنهَت الحديث. ولكنّني كنتُ أعلم أنّ مرضي لن يجلب العرسان خاصة أنّني كنتُ بدأتُ أعرج وبقوّة.
وما لم أكن أعلمه هو أنّ والدتي أخبَرَت والدي عن اعجابي بِفؤاد وقرّرا أن يقرّبا بيننا. لِذا زارَت أمّي أم فؤاد وتحدّثنا مطوّلاً لإيجاد الصيغة المناسبة أي المنافع التي كان سيحصل عليها ابنها في حال قَبِل بي. ولكنّ الشاب بقيَ يرفض حتى أن رفع أهلي سقف تقديماتهم أي شقّة وسيّارة وتكاليف الزفاف. عندها رأيتُ فؤاد عندنا يبتسم لي وكأنّني ملكة جمال الكون. ولو علِمتُ بتلك الصفقة لرفضتُ هذا العريس الذي لم يهمّه سوى منفعته ووفرتُ على نفسي أيّام مليئة بالبؤس.
وبدأنا نتواعد قليلاً أيّ أنّه في البدء كان يأخذني إلى المطاعم ومِن ثم أصبح يزورني في البيت لأنّه وحسب قوله لم يكن يريد ارهاقي بالمشاوير. ولكنّه كان يخجل منّي ومِن عرجتي ولم يتحمّل نظرات الناس الينا كلّما دخلنا مكاناً عامّاً. وأقمنا الزفاف الذي حضَرَه الكثير مِن الناس لأنّ أبوَيّ أرادا أن يرى العالم بأسره أنَ ابنتهما الشبه مقعدة وجَدَت مَن يتزوّجها. لم نذهب لِقضاء شهر العسل في أيّ مكان لأنّ فؤاد أعتبرَ ذلك مكلفاً وغير ضروريّ.
أمّا أنا فكنتُ مأخوذة بِعريسي ولم أمانع أن نبدأ فوراً حياتنا الزوجيّة. ليلة الزفاف كانت جد عاديّة ومِن دون أن أدخل في التفاصيل قامَ زوجي بِواجباته بِسرعة فائقة. ومِن الأوّل فعَلَ فؤاد جهده كي لا أحمل منه لأنّه لم يكن ينوِ البقاء معي مطوّلاً ووجود طفلاً أو أكثر كان سيعيق خطّته. ولِيبرّر عدم رغبته بالإنجاب قال لي أنّ الحياة أمامنا ولا داعي للاستعجال وأنّنا نستطيع جلب أكبر قدر مِن الأولاد حين تتحسّن حالتي. ولكنّني كنتُ أعلم أنّ لا أمل في أن أتعافى ففضّلتُ أن يعتقد ذلك بدل أن يعتبرني حالة ميؤوس منها.
وبعد أشهر قليلة على زواجنا أخبَرَني فؤاد أنّه وجَدَ عملاً في كندا وأنّ علينا الانتقال إلى هناك. ولكنّ فكرة الابتعاد عن أهلي أزعَجتني بِسبب العلاقة الوطيدة التي كانت بيننا. فلقد قضيتُ معظم وقتي معهما نتقاسم كل شيء ونتشارك الكبيرة والصغيرة. ولكنّني لم أكن قادرة على الوقوف في وجه مستقبل زوجي لِذا رضختُ للأمر الواقع خاصة أنّ عمله آنذاك لم يكن ليؤمّن لنا حياة مريحة بل أنّنا كنّا سنتّكل على ما قد يعطيه لنا أبي. إضافة الى ذلك وأردَتُ أن يشعر فؤاد باستقلاليّة وبأنّه قادر على الأنفاق على عائلته ومنزله دون أن يمد يده لأحد.
وباع فؤاد الشقّة والسيّارة وودّعتُ أبي وأمّي وسافرنا. ولكنّنا لم نذهب إلى كندا بل إلى تركيا. فحين أدركتُ أنّ وجهة سفرنا تغيّرَت سألتُ زوجي عن السبب فقال لي:
ـ سنتوقّف قليلاً في اسطنبول... لدَيّ أقارب هناك لم أرَهم منذ وقت طويل... لا تبالي... أنا زوجكِ وأعلم ما أفعله.
وسكتُّ لأنّني لم أشكّ أبداً بالذي يحضّره لي. في البدء عشنا في نزل وسخ وقديم وكان فؤاد يتركني في المساء ليوافي أقاربه ويعود متأخّراً أو حتى في الصباح. والغريب في الأمر أنّني لم أرَ هؤلاء الأقارب يوماً أو أسمع صوتهم، ولم يعرض عليّ زوجي أن يعرّفهم عليّ. وكلّما كنتُ أسأله عنهم كان يجاوبني بطريقة مبهمة ويغيّر الحديث بِسرعة.
وبعد أيّام قال لي:
ـ دواؤكِ وحقنتكِ مكلفة للغاية... لم أعد قادراً على شرائها.
ـ ولكنّنا نملك المال الكافي... ألم تبع الشقّة والسيّارة؟
ـ بلى... ولكنّنا بِحاجة إلى ذلك المبلغ للاستقرار في كندا... اتصلي بأهلكِ واطلبي منهم أن يرسلوا لكِ ثمَن العلاج.
وفعلتُ ما قاله لي واستغربوا أنّني أريد أن يُرسل المال إلى تركيا فلم أقل لهم أين أنا وجعلتهم يعتقدون أنّني وصلتُ أوتاوا كي لا أشغل بالهم. عندها شرحتُ لهم أنّنا مكثنا في العاصمة التركيّة لبعض الوقت فقط. وعندما حصلتُ على المال أعطَيتُه لِفؤاد ليِشتري لي الدواء ولكنّه لم يفعل بل تحجّجَ أنّه غير موجود في البلد وأنّ عليّ الانتظار حالما نصل إلى كندا.
وعادَت أوجاعي القديمة ولم أعد قادرة على التحرّك وبقيتُ في تلك الغرفة القذرة ليلاً نهاراً أنتظر بِفارغ الصبر موعد سفرنا. ولكنّني لم أكن لأرى تلك البلد يوماً لأنّ فؤاد اختفى في ذاك يوم. كان قد خَرَج كعادته ليسهر مع شلّته ولم يعد. وبالطبع ظننتُ أنّه وقعَ ضحيّة حادث ما أو حتى مات وبدأتُ أتّصل بالمستشفيات ومِن ثم الشرطة التركيّة. لِحسن حظّي كنتُ أجيّد التكلّم بالإنكليزيّة وإلاّ لما استطعتُ شرح ما يحدث لي.
ومرَّت الأيّام ومِن ثم الأسبوع وأنا أنتظر في الغرفة. وعندما تصلَت بي الشرطة وأعلَمتني أنّ فؤاد ركبَ طائرة متجّهة إلى كندا رضختُ للأمر الواقع. وطلبتُ العون مرّة أخرى مِن أبويّ وأرسلا لي ثمَن تذكرة سفر لأعود إلى البلد. ورجعتُ وقلبي ينزف مِن الألم والحزن خاصة بعدما عانيتُ الأمَرَّين للخروج مِن النزل والتنقّل في المطار. لِحسن حظّي قدّمَت شركة الطيران لي العون وأسندَت لي مساعداً وكرسيّاً متنقّلاً.
وحاوطَني جميع أقربائي ومعارفي وبتُ محط شفقة الكلّ الأمر الذي زاد مِن حزني. وبعد حوالي السنة جاء أحد معارفنا وأخبرَنا أنّ فؤاد تزوّج في كندا وأنّ زوجته حامل وأنّهما يعيشان في منزل جميل محاطاً بِحديقة كبيرة. وكاد أبي أن يصاب بِنوبة قلبيّة عند سماع ذلك وعملنا جهدنا لتهدئته. وفي وسط هذا الجوّ الثقيل استيقظَت مواهبي مِن جديد. فَمِن الألم يولد الإبداع. وأخذتُ أرسم كما كنتُ أفعل في الماضي وأخترع القصص لأخرج مِن واقعي الأليم.
وفي أحد الأيّام قرأتُ في الجريدة أنّ دار نشر معروف يقيم مسابقة لأجمل قصّة مصوّرة فانكّبيتُ على العمل وأعطيتُ لِمشروعي كل ما أملك. وأرسلتُ عملي في البريد وانتظرتُ النتيجة. لم أكن أتوقعّ الفوز ولكنّ جزء منّي كان يأمل أن أكون قادرة على أنتاج شيء مهما كان صغيراً. وربحتُ الجائزة الأولى التي كانت نشر القصّة وتوزيعها. وافتخرتُ بِنفسي لأنّني ولأوّل مرّة في حياتي كنتُ قد أنجزتُ شيئاً رغم مرضي. وشعرتُ بِقوّة خارقة وكأنّني بطلة إحدى قصصي.
وحين نُشِرَت القصّة أقامَ لي دار النشر جلسة أمضاء. ومِن على كرسييّ وقّعتُ أسمي على كتبي وتلقّيتُ تهاني القرّاء. وكانت حياتي قد أخَذَت منعطفاً مهمّاً وغير متوقّعاً ولم أخف أن أسلكه. والفضل يعود لأبي وأمّي لأنّهما لم يفقدا يوماً إيمانهما بي بل بقيا يشجّعاني على التغلّب على مرضي. وأهديهما هذه القصّة على أمل أن تكون التالية عن حبّ جديد ومَن يدري طفل جديد.
حاورتها بولا جهشان