كنتُ أعلم أنّ خطيب أختي رجل قاس لأنّني، على عكسها، تحرَّيتُ عنه جيّدًا. هي لم تفعل لأنّها انبهَرَت بشخصيّته المميّزة وثرائه وما أسمَته "كرَمه المُفرط". بينما هو كان بالحقيقة يشتري حبّها له ليتمكّن مِن بسط سيطرته عليها. لماذا يفعل ذلك؟ لأنّه إنسان مريض نفسيًّا لا يجد لذّته إلا بتعذيب غيره.
حين تعرّفَت سهى على حامد، ظنَّت أنّ الأمر حدَث صدفة، إلا أنّه عَمَدَ التواجد في ذلك المكان وتلك الساعة، ليخطف قلب من أسماها الناس "أجمل فتاة في البلد". ولم يلزمه سوى بضع مجاملات ونظرات حتى سيطَر على أحاسيسها البريئة. فالجدير بالذكر أنّ سهى وبالرغم مِن جمالها، كانت خجولة جدًّا، لا تبارح المنزل إلا نادرًا وبرفقة أهلنا. لكن في ذلك اليوم بالذات، كانت لوحدها لأنّ ما مِن أحد كان قادرًا على مرافقتها.
أخَذَ حامد رقم هاتفها وبدأ يكلّمها باستمرار، حتى أصبَحَ جزءًا مِن حياتها لا تستطيع العيش يومًا مِن دونه. إلتقيا بضع مرَّات بان حامد خلالها رجلاً محترمًا جدًّا، ومِن ثمّ جاءَ لزيارتنا وطلَب يَد سهى.
إنبَهَر أهلي بذلك الرجل الوسيم والواثق مِن نفسه، ووجدا فيه الصهر المثاليّ الذي تتمنّاه كل عائلة، وهو أكَّدَ لهما أنّه سيهتم بابنتهما ويُعاملها وكأنّها أميرة.
وحدي لم أرَ فيه إلا مراوغًا سيّئًا، وعندما أعطَيتُ رأيي به، إتُّهِمتُ بالغيرة تجاه أختي، الشيء الذي لم يكن طبعًا حقيقيًّا. لِذا قرَّرتُ التقصّي عن حامد لأثبتَ للجميع أنّني على حقّ.
لم يكن الأمر صعبًا، فهكذا رجال، ولكثرة ثقتهم بتفوّقهم على الغير، لا يتكبّدون عناء إخفاء ماضيهم. فقد اكتشفتُ مذهولة أنّه خطَبَ ثلاث مرَّات وتزوّج مرّتَين قبل أن يتعرّف إلى أختي. لماذا هذا الفشل العاطفيّ؟ لأنّ تلك الفتيات وأهلهنّ عرفوا أيّ رجل هو، البعض قبل الزواج والبعض الآخر بعده. وفي كل مرَّة، وجَدَ نفسه منبوذًا ومتروكًا مِن التي حاوَلَ السيطرة عليها. أظنّ أنّ حامد، بعد كل تلك التجارب الفاشلة، وضع آماله كلّها في سهى وأقسَم أنّها لن تفلت منه مهما كلّف الأمر. وليفعل ذلك، كان عليه إزاحتي مِن دربه لأنّني كنتُ أشكل خطرًا عليه. كنتُ قد أخبرتُ سهى عمّا اكتشفتُه، وطلبتُ منها عدم إخبار خطيبها بالأمر كي تبقى الكرة في ملعبنا، إلا أنّها ركضَت تروي له عن تحرّياتي، الأمر الذي دفعَه إلى ابتكار سبل جديدة للتخلّص منّي.
أوّل شيء فعلَه حامد هو إقناع أختي بأنّني إنسانة سيّئة لا تسعى سوى لإتعاسها. والذي ساعدَه على ذلك، كانت تجربتي الخائبة بالزواج إذ طلّقتُ زوجي بعد أشهر قليلة على زواجنا. يا ليت سهى تذكّرَت أنّ الذي اختَرتُه شريكًا لحياتي كان يتعاطى المخدّرات، وكان لا بّد لي أن أتركه خاصّة أنّه رفَضَ قطعيًّا أن يتعالج، بل أصرّ على البقاء على إدمانه لأنّه يجد لذّة بذلك.
ويا ليتها وثقَت بي أنا بدلاً مِن ذلك المحتال لَما حصَلَ لها كل الذي حصَل. لكنّ الحب أعمى فعلاً، ويحجب عنّا الأمور التي هي بائنة للعيان.
يومًا بعد يوم، صارَت سهى تبتعد عنّي وتنزعج مِن كل كلمة أقولها وإن لم تكن متعلّقة بخطيبها، حتى أنّها فضّلَت عدم التكلّم معي بتاتًا. تألّمتُ كثيرًا لذلك الوضع، ووعدتُ نفسي باستعادة حبّها لي مبقيةً عينًا ساهرة عليها. إلا أنّ حامد قرَّرَ تعجيل موعد الزفاف خوفًا مِن أن أتمكّن مِن إقناع اختي بالعدول عنه.
هكذا تزوَّجَ حامد وسهى وسكنا في شقّته الجميلة وسط البلد. بالطبع لم يكن مُرحبًّا بي عندهما واكتفَيتُ بتتبّع أخبارهما عبر أهلي.
لكنّ أختي لم تكن سعيدة مع رجل ظالم وقاسٍ أظهَرَ لها وجهه الحقيقيّ أيّامًا قليلة بعد الزفاف، فهي لم تعد قادرة على الخروج أو التكلّم مع أحد مِن دون إذنه.
علِمتُ بما يجري مِن صديقتها الحميمة التي أعلَمتني أنّ أختي بحالة يُرثى لها، وأنّها رأت في آخر زيارة مسموحة لها علامات تعنيف جسديّ على وجهها وذراعَيها.
إنتابَني غضب شديد، وقرَّرتُ أنّ عليّ انتشال أختي الحبيبة مِن مخالب ذلك الوحش. لِذا قصدتُ شقّة سهى وبقيتُ أخبط على بابها إلى أن شاءَت أخيرًا أن تفتح لي. كان الخوف ظاهرًا في عَينَيها، وطلَبت منّي بصوت مرتجف أن أغادر بسرعة. بالطبع لم أرحل، بل دخلتُ المكان بالقوّة وجلستُ في الصالون وقلتُ لها:
ـ هيّا، إجمَعي أمتعتكِ فستغادرين معي.
ـ لا أستطيع فعل ذلك.
ـ ولِما لا؟ مِن الواضح أنّكِ لستِ سعيدة مع زوجكِ وأنّه يُسيء معاملتكِ... ما مِن سبب يُجبركِ على البقاء معه.
ـ بلى... فأنا حامل.
ـ وإن يكن! سنربّي الولد مِن دون أبيه.
ـ لن يدعَني حامد بسلام... سيفعل جهده لأخذ إبني منّي وسيُنكّد حياتي كلّها... يا لَيتني سمعتُ منكِ يا أختي...
ـ لم يفت الأوان بعد، هيّا تعالي معي!
وعَدَتني سهى بأنّها ستفكّر بالأمر وتوسّلَت إليّ كي أرحل بسرعة. صرنا نتحدّث سريًّا عبر الهاتف وأحثّها في كل مرّة على الهروب. لكنّ سهى كانت مفتونة بذلك الرجل المتلاعب، الذي أقنعهَا بأنّه يُحبّها بالرغم مِن إساءَته الدائمة لها، فالذي كان يفعله هو مِن أجلها لأنّها بحاجة إلى مَن يُوجّهها حتى لو كان ذلك بطريقة خشنة. إستطعتُ أخيرًا إقناع أختي بالرحيل عن زوجها، واتفقنا أن تترك مسكنها عندما يكون حامد في عمله وأن تأتي إليّ مع أمتعتها حيث كنتُ سأنتظرها، أي في الحديقة العامة الموجودة في حيّ قريب.
إنتظرتُها ساعة ثمّ اثنتَين ولم تأتِ فانشغل بالي كثيرًا عليها. وحين قصدتُ الشقّة وفتحَت لي سهى رأيتُ الكدمات على وجهها. كان حامد واقفًا وراءها ينظر إليّ بغضب شديد. طلَبَت منّي أن أدعها وشأنّها وأقفلَت الباب بوجهي.
كيف علِمَ حامد بخطّتنا؟ هل كان يتنصَّت على مكالماتنا أم أنّ أختي هي التي أطلعَته عليها؟ حتى الآن لم أحصل على الجواب.
منذ ذلك اليوم، لم أعد قادرة على التواصل مع سهى بأيّة طريقة، خاصّة أنّ حامد أخَذَ أختي وابنه إلى بلد مجاور فورًا بعد الولادة. فعلتُ المستحيل لمعرفة مكانهم إلا أنّهم تبخّروا في الطبيعة.
مرَّت حوالي السنتَين حتى وصلَنا خبر موت أختي. قيل لنا إنّها وقعَت عن السلالم وكسَرَت عنقها. أنا متأكّدة مِن أنّ لحامد دخل بما حصل ولكن كيف لي أن أثبت ذلك؟ وبالرّغم مِن حزني على سهى، شعرتُ بارتياح لأنّني علِمتُ أخيرًا أين ابنها، ووعدتُ نفسي بأن ابقي عَينًا عليه ولو عن بعد، فهو كلّ ما تبقّى لي مِن أختي.
أعلم أنّ يومًا سيأتي وأستعيد ذلك الولد، فلن أقبل أن يبقى ويتربّى مع قاتل بلا رحمة.
حاورتها بولا جهشان