- ستبقين حبّي الأوّل.
هكذا ودّعَني زوجي بعدما طلّقَني ليتزوّج مِن التي يمكنها إعطاءه ولداً. وذرفتُ دموعاً كثيرة بالرغم أنّني كنتُ التي عَرضتُ عليه تركي. فعلتُ ذلك بِدافع الحب بعدما أدركتُ أنّني عاقر وأنّ جميل يعشق الأولاد. وأعترفُ أنّني لم أتوقّع أن يقبل بالرحيل، بل تصوّرتُ أنّه سيصّر على البقاء معي لِكثرة حبّه لي. ولكن جزء كبيراً مِن أخذه هذا القرار كان سببه ضغط أهله ومجتمعه. فعند الشعوب المتأخّرة، الرجولة مربوطة في عدد الأولاد الذي يأتي بها الرجال إلى الدنيا. وكل شهادات وإنجازات جميل لم تزِن شيئاً أمام التربية التي تلقّاها وتأثير عائلته عليه. فدَعَسَ على قلبه وقلبي أيضاً في طريقة وأخَذَ يفتّش عن زوجة غيري.
وانقطعَت أخباره بينما كنتُ أحاول أقناع ذاتي بأنّني فعلتُ الصواب وأحضّر نفسي لِحياة مِن دون جميل. وشاءَ القدر أن ألتقي بِمازن عن طريق الصدفة في حين لم أكن أنوي أبداً الارتباط مع أحد خاصة أنّني كنتُ لا أزال أحب الذي كان زوجي.
حصلَ ذلك خلال زيارتي إحدى قريباتي لِتهنأتها على إجازتها الجامعيّة. ووصلَ مازن مع أخيها ورآني جالسة في الصالون وقفَ مكانه ثوان طويلة قبل أن يتذكّر بإلقاء التحيّة علينا. أمّا مِن ناحيتي فوجدتُ الرجل جذّاباً وظريفاً وليس أكثر لأنّني كنتُ لا أزال متيمّة بِجميل ولأنّني لم أعد أتحمّل أن يتركَني أحد بِسبب عقري. فالقليل مِن الرجال كان سيقبل الزواج منّي إلاّ إذا كان كبيراً في السنّ ولَدَيه أولاداً مِن زواج سابق. فلم أتخيّل أن ذلك الشاب سيستوعب فكرة العيش مِن دون ذرّية.
وتركتُ منزل صديقتي ونسيتُ مازن كليّاً إلى حين اتصَلَت بي الفتاة وقالَت لي أن صديق أخاها مُعجب بي ويودّ التعرّف إليّ أكثر. عندها سألتُها:
ـ قلتِ له أنّني مطلّقة وسبب طلاقي هو عقري؟
ـ أجل... لم يكن باستطاعتي إخفاء هكذا أمر عنه.
ـ وماذا قال؟
ـ قال: أسأليها إن كانت تودّ التعارف.
استغربتُ للأمر وقلتُ لِنفسي أنّ لا ضرَر في أن يكون لي صديقاً أتكلّم معه وأتبادل وأيّاه أفكارنا. فلم أكن أريد حينها أكثر مِن ذلك. وبدأنا نتواصل على الهاتف ومِن ثمّ تقابلنا وبقينا أصدقاء حتى أن قبّلَني مازن. والغريب في الأمر أنّني لم أنزعج منه لبَل استمتعتُ بالقبلة. وفي لحظة واحدة اختفى جميل مِن رأسي ومِن قلبي. ولكنّ الخوف ملأ قلبي فخشيتُ أن يكون مازن يفكّر فقط بِتمضية الوقت معي فقرّرتُ أن أكون صريحة معه قبل أن تتطوّر الأمور بيننا:
ـ أسمع... لقد مررتُ بِظروف صعبة جداً ولن أتحمّل خيبة جديدة... ما الذي تريده منّي؟
ـ ما كل شاب يريده مِن فتاة... أعني الحب والتفاهم.
ـ فقط؟
ـ أنا إنسان لائق وأفهم بالأصول... تربّيتُ على احترام الناس وخاصة المرأة... أريد الزواج منكِ.
ـ ولكنّني عاقر!
ـ وإن كان؟ وأنتِ كل ما أريده.
ـ ستمضي حياتكَ كلّها مِن دون أن يحمل أسمكَ أحد.
ـ المهمّ أن تحمليني أنتِ... أن تكوني جنبي عندما أصبح مريضاً أو فقيراً أو عجوزاً.
وملأ الفرح قلبي وابتسمتُ للذي اعتبرَني إنسانة بِكل معنى الكلمة. وتزوّجنا وبدأت حياتنا الجديدة. ولكن وسط فرَحَ الأقرباء والأصدقاء لنا كان هناك شخصاً مستاءً مِن ارتباطي الجديد: جميل. فلم يكن زوجي السابق قد وجَدَ العروس المناسبة بعد بالرغم مِن حملة التفتيش التي أطلقَتها أمّه. وفكرة سعادتي أزعَجته في حين أعتقَدَ أنّني سأبقى تعيسة ووحيدة لِباقي حياتي. وتقبّلَ الخبر بِصمت لمدّة أشهر وعندما لم يعد قادراً على التحمّل أنفجَرَ غضبه. واتصلَ بي مهنّئاً بالأوّل ولكن سرعان ما تغيّرَت نبرة صوته لِيبدأ بالتهديد. عندها قلتُ له:
ـ لماذا كل هذا الحقد؟ أذكّركَ بأنّكَ طلّقتَني!
ـ وأذكّركِ بأنّكِ طلبتِ منّي ذلك!
ـ قصدي كان أن تحظى بالأطفال الذين تعشقهم... لم أجبركَ على تركي... زوجي الحالي قَبِلَ بي كما أنا... لو كنتَ تحبّني مثله لكنتَ بقيتَ معي.
ـ افحصيه! أنا متأكّد أنّه عاقر هو الآخر ويمثّل عليكِ دور الزوج العظيم.
ـ أنتَ قلتها: الزوج العظيم! عكسكَ يعني... وحتى ولو كان عاقراً كما تقول فهذا لا يهمّ... فهو يحبّني على عكسكَ... أسمع يا جميل... لم أفتعل المشاكل عندما طلّقتَني وبدأتَ بالبحث عمَّن يأخذ مكاني فأرجوكَ أن تتصرّف بِنضوج أم تريدني أن أبقى لِوحدي بينما تنعم أنتَ بِحياة زوجيّة وعائلة؟
واعتقدتُ أنّه فهمَ الرسالة وأنّه سيتركني وشأني ولكنّ جميل بدأ يخطّط للتفريق بيني وبين مازن وبِشكل قبيح جدّاً. فعندما وجَدَ أنّه لن يستطيع الخرق مِن جانبي قرّرَ زوجي السابق أن يحاول مِن جانب غريمه. وبعد أن سألَ وفتّشَ وجَدَ عنوان عمل مازن وراحَ ينتظره عند المدخل. وهكذا التقى الرجلان ودارَ بينهما الحديث التالي:
ـ أنا جميل زوج عايدة.
ـ بل زوجها السابق... أنا زوجها... لقد أخبَرَتني عايدة أنّكَ اتصلتَ بها وأنّكَ كنتَ مستاءً جدّاً... زوجتي تخبرُني كل شيء.
ـ أصحيح ذلك؟ وهل أخبَرَتكَ أنّ سبب تطليقي لها لم يكن عقرها فحسب بل خيانتها لي؟
ـ ماذا تعني؟
ـ أعنّي أنّها لم تكن ولن تكون وفيّة أبداً... وسبب استيائي عبر الهاتف كان قلقي عليكَ منها.
ـ لا أصدّقكَ.
ـ ولِما لا؟ ماذا تعرّف عنها؟ لا شيء سوى أنّها أعجبَتكَ وأسمعَتكَ قصّتها الحزينة لِتذوّب قلبكَ... ما أفعله الآن معكَ هي خدمة مِن رجل لِرجل.
وعندما عادَ مازن في تلك الليلة إلى البيت لا حظتُ توتّره ولكنّني لم أفهم السبب. فلم يكن بإمكاني التكهنّ بأنّ جميل وصلَ إلى ذلك الحد مِن الحقارة. فعندما يحب الإنسان لا يؤذي حبيبه. وكتمَ زوجي أمر لقاءه بِجميل لأنّه أدركَ أنّه فعلاً لا يعرف شيئاً عنّي وأنّه لا يملك سوى شعوره نحوي لِيتّكل عليه. ومِن كثرة قلقه أن أكون فعلاً إنسانة غشّاشة خفّ اهتمامه بي وأنقطعَ كل اتصال جسدي بيننا. فمِن رجل مغروم يقبّلني كل الوقت ويعاشرني كل ليلة بات يتهرّب منّي وكأنّني مصابة بِمرضٍ معدٍ. ووصَلَت الأمور به أن يتبع ويتتبّع تحرّكاتي أثناء النهار لِيرى إن كنتُ أذهب للقاء أحداً.
وفي أحد الأيّام حين كنتُ في السوق لِشراء فستاناً جميلاً على أمل أن أستعيد حبّه رأيتُ مازن ورائي. في البدء ظننتُ أنّه شخص يشبهه ولكن عندما تحقّقتُ منه ورأيتُ كيف يحاول متابعتي خفيَة قرّرتُ عدم التصرّف وتركه يفعل ما يشاء. وهكذا بدأتُ أراه ورائي أينما ذهبتُ ولولا جدّية الموقف لَضحِكتُ على شكله وهو يختبئ وراء السيّارات وفي مداخل المباني كلّما استدرتُ.
وبعد أسبوعَين على هذا النحو ملَلتُ مِن اللعب به وقرّرتُ التحدّث معه بالأمر. حاوَل النكران والتهرّب مِن المواجهة ولكنّني بقيتُ مصرّة إلى حين أخبرَني كل شيء. عندها قلتُ له:
ـ سئمتُ مِن الحزن والبكاء فإن كنتَ تودّ الرحيل هيّا أرحل الآن! على كل حال لا أريد رجلاً يصدّق كل ما يسمعه خاصة مِن زوج سابق أكلَته الغيرة... أحببتُكَ وفتحتُ لكَ قلبي وأعطَيتُكَ كل ما أملك وحسبتُ أنّكَ جدير بِهكذا معاملة.
ـ أنا جدير بذلك!
ـ أريد رجلاً يحميني ولا يتأثّر بكل أمر وينقلب ضدّي في كل لحظة... أريد الاستقرار والطمأنينة... أريد جبلاً لا تهزّه أقوى العواصف... أريد مازن الذي تزوّجَني بالرغم مِن أنّني عاقر وليس جميل الذي هربَ عند أوّل اقتراح منّي... أريد أن أكون سعيدة وأن أشعر أنّني كاملة مِن دون أولاد بِفضل نصفي الثاني... أنا خائنة؟ صدّقتَه بأقل مِن خمس دقائق وأخذتَ تلحقني كاللص؟ ألم تسأل نفسكَ لِما جاءَ زوجي السابق إليكَ؟ هل مَن يترك زوجته يتحلّى بهذا الكمّ مِن الأخلاق؟
ـ معكِ حق... الآن أرى الصورة الكاملة... كم أنّني غبّي... سمعتُ منه فقط لأنّه رجل معتقداً أنّ الرجال يجيدون التفاهم فيما بعضهم ويتكاتفون سويّاً... أما زلتِ تحبّينني؟ مِن حقّكِ أن تقولي لا... سأتفهمّ الأمر.
ـ بالطبع أزال أحبّكَ! وسأحبّكَ طوال حياتي إن وعدتَني أن تفاتحني بِكل ما يزعجكَ وأن تثق بي... فليس لَدَينا سوى بعضنا يا حبيبي.
حاورتها بولا جهشان