ركن سائق "الليموزين" السيّارة أمام درج الكنيسة، بعد جولةٍ في الحيّ، كما درج التقليد. كان قلبي يخفق بقوّة. الناس المجتمعون أمام باب الكنيسة كانوا يلوّحون لي بأياديهم. نظرت من النافذة لأرى مارسيل... لا بدّ أنّه محاطٌ بأصدقاء يهنّئونه. آه كم كنّا نحبّ بعضنا!
ساعدتني إشبينتي على الخروج من السيّارة، أنا وطرحتي الهائلة. كان الناس يصفّقون... وعينا أمّي تدمعان. كنت أشعر بأنني جميلة جدّاً، وبأنّني بعد أقلّ من ساعة، سأصبح "مدام ت".
انتهت مشاكلنا بعدما تمكّن مارسيل أخيراً من إقناع والديه. فعائلته ثريّة، أمّا أبي فمحاسبٌ متواضع في شركتهم الكبيرة فضلاً عن أن مارسيل كان مخطوباً لنسيبته عندما التقينا ووقعنا في الحبّ...
صعدت الدرج ببطء. الكلّ كان يقترب منّي ويقبّلني. لم أسمع إلاّ كلمة "مبروك"، ولكنني لم أر خطيبي ولا أيّ فردٍ من عائلته.
قلق والدي:
- أين العريس بحقّ الله؟
أجبته:
- لا بدّ أنّه عالقٌ في زحمة السير. تعرف أنهم آتون من بعيد.
- وهل على العروس أن تنتظر! هذا غير معقول! ماذا سيقول الناس؟
- أنا متأكّدة من أنه سيصل، بين لحظةٍ وأخرى...
اتّصلت بمارسيل على هاتفه الخلوي، لكنني لم أسمع سوى صوت المجيب الآلي. لا بدّ أنّه يمرّ في منطقة لا تغطّيها شبكة الخلويّ...
انتظرنا. المدعوّون حاولوا تلطيف الأجواء بالمزاح. كلّ واحد منهم قال لنا كلمة لطيفة لتهدئتنا.
مرّت نصف ساعة... كان منظرنا مؤلماً ونحن نصطف أمام الشارع، نلتفت كلّما سمعنا أدنى صوت سيّارة. بين الحين والآخر، كان أحدهم يهتف "وصلوا!" وآخر من بعده يقول... "إنذار خاطئ".
ثم خرج الكاهن من الكنيسة مرتبكاً:
- إذاً؟
- ليس بعد أبتِ، ليس بعد.
- لديّ زفافٌ آخر بعد ساعة.
- سيأتون... تحلّ بالقليل من الصبر، رجاءً...
لكنهم لم يأتوا.
جلبوا لي كرسيّاً كي أرتاح. فقد أمضيت كلّ فترة قبل الظهر أمام الكاميرا، وكان ظهري ورجلاي تؤلمني.
لم أفهم طبيعة شعوري في هذه اللحظات. مزيجٌ من الإهانة، وخيبة الأمل، والخوف، والاشمئزاز. لم أستطع أن أفهم، ولا أن أصدّق: مارسيل لن يفعل بي هذا أبداً. حتى لو غيّر والداه رأيهما، لكان أتى هو. كان يحبّني كثيراً...
غادر المدعوّون واحداً تلو الآخر. لم يبق سوى أهلي. خرج الكاهن مجدداً وقال لي بلطفٍ، بعدما وضع يده على كتفي:
- عودي إلى منزلك يا ابنتي، لن يأتي. أنا خبيرٌ بالأعراس ولا أظن أنني مخطئ.
في هذه اللحظة، أجهشت بالبكاء. أمّا أبي، فأطلق العنان لغضبه... وأمّي كانت مذهولة.
عدنا إلى المنزل. خلعت فستاني الأبيض. توقّفت عن البكاء، وأصبحت كأنني مخدّرة... أعدنا كلّ الهدايا التي تلقّيناها. لم نتحدّث عن الموضوع بعد ذلك اليوم، كما لو أننا كنّا نحاول محوه من ذاكرتنا.
تغيّر أبي نهائيّاً. فقد ابتسامته. وبما أنّه قدّم استقالته، نادراً ما كان يغادر المنزل. أمّا أنا، فلم أتلقّ أيّ أخبارٍ عن مارسيل.
مرّت الأسابيع والأيّام. أظهر لي أهلي وزملائي تضماناً كبيراً، ورحت شيئاً فشيئاً أتخطّى هذه الصدمة... إلى أن التقيت في أحد الأيام وأنا في السوق بمارسيل. ذعرت عندما رأيته، وبقي كلانا مسمّراً لدقائق. أصبح نحيلاً، ولديه لحية. حرّك شفتيه كما لو أنه أراد قول شيء، لكنه بقي صامتاً.
- لا حاجة لأن تقول شيئاً.
همس بأذني قائلاً: رُلى... واغرورقت عيناه بالدموع.
- ما من شيء يمكنه أن يبرّر ما فعلته.
- ما حدث كان رغماً عنّي، أرجوك، حاولي أن تفهمي...
- ماذا تريدني أن أفهم، أنك بعت حبّنا؟ وأنّك لم تجرؤ على أن تقول لي ذلك وجهاً لوجه؟ أنت مجرّد جبان!
- أستحقّ أن تنعتيني بهذه الكلمات... لو أمكنك أن تعرفي كم كنت مظلوماً من دونك! أتخيّل كم عانيت وكم شعرت بالكراهية تجاهي. أردت الاتصال بك، وتوضيح الأمور، والاعتذار، لكنني عجزت عن ذلك...
ثم أحنى رأسه ليغطّي دموعه.
- تزوّجي منّي، قالها فجأةً. لا أريد المزيد من المال من عائلتي التي تفسد عليّ حياتي! سأجد وظيفة وسنعيش سعداء معاً.
نظرت إليه من دون أيّ تأثّر، الأمر الذي فاجأني حقيقةً. تخيّلت هذا المشهد مئات المرّات وأنا ممدّدة على سريري، أذرف دموعاً حارّة. في كلّ مشهدٍ من هذه المشاهد، كان ينتهي بي الأمر في أحضانه، أقول له كم أحبّه وإنني سامحته. أمّا الآن، فلم أشعر بشيء. لقد جرحني في الأعماق.
- فات الأوان. أمضيت الأشهر الماضية أتعلّم كيف أنساك، وأتذوّق مجدّداً طعم الحياة. حتى إنني أصبحت أعي أنني أساوي أكثر من مالك بكثير. أنت بعتني، وأنا اشتريت نفسي. قد أسامحك، لكنني لم أعد أحبّك. عليك أن تعيش مع عذاب ضميرك، أما انا فسأعيش على أمل مقابلة رجل يعرف قيمتي الحقيقيّة. وداعاً مارسيل...
ابتعدت من دون أن أترك له وقتاً للإجابة... ربّما خوفاً من أن ينجح في حملي على تبديل رأيي. لكنّني لم أرغب في العودة إلى الوراء، ولم أشعر بأنّ هذا هو الرجل الذي أحببت.
صرخ مارسيل:
- رُلى، عودي! أرجوك!
تابعت طريقي، ولم أنظر إلى الوراء، حتى وصلت إلى سيّارتي وانهمرت دموعي.
كان ذلك قبل سنتين. أنا الآن متزوّجة وأنتظر طفلاً. جورج أروع رجلٍ في العالم. نعمل معاً، وقد ساندني كثيراً في محنتي. لا آسف على شيء لأنني أسعد بكثير اليوم. أردت أن أروي قصّتي كي أقول إنّه في الحبّ، لدينا دوماً فرصة أخرى...
بولا جحشان