كنتُ أُعرَف بالحيّ بِ " إبن السكاّف" وكان الأمر يزعجني كثيراً، لأنّني كنتُ أعتبر نفسي أهمّ مِن ذلكَ ولكنّني كنتُ أعي أنّ ذلك السكاّف كان يتعب طوال النهار لكي يُطعمنا ويرسلنا إلى المدرسة. وحين كبرتُ قليلاً وطلَبَت منّي أمّي أن أذهب إلى المحل وأساعد أبي، صرختُ:
ـ أبداً! لن أسلك هذا الطريق! لن أقضي وقتي أُصلح أحذية الناس وكأنّني أقل شأناً منهم!
ـ لسنا أقلّ شأناً مِن أيّ أحد... فقط أقلّ مالاً... يا بنّي... أشكُر ربّكَ على هذه النعمة ولاتتكبّر عليها.
ولكنّني لم أقبل بالإكتفاء بهذا القدر وقرّرتُ أن أطمح إلى الأكثر وأثبتَ للجميع أنّ هناك حياة أفضل مِن التي نعيشها. والذي ساعدَني هو إجتهادي في المدرسة، فكنتُ دائماً الأوّل في صفيّ، أخزّن المعلومات وأحفظ الدروس بشغف وحين أنتهيتُ مِن المرحلة الثانويّة، سهّلَ لي الحصول على منحة تخوّلني الدخول إلى جامعة مرموقة لأدرس الحقوق. ولكن في ذلك الحين بالذات، توفي والدي بسبب ذبحة قلبيّة حادّة ولم يعد هناك مِن معيل لنا. فوجدتُ نفسي أمام الأمر المحتوم وهو أخذ مكان أبي في المحل وإنتقلتُ من "إبن السكاّف" إلى" السكاّف". ولكنّني لم أنسىَ أمر الكليّة، فأخذتُ أذهب إلى العمل وأتابع ما أستطيع مِن محاضرات الكليّة بفضل زميل لي كان يأتي لي بالدروس.
كان عملي بسيط ومملّ وكانت تأتي إليّ السيدّات وتقضَين وقتهنَّ بالتحدّث عن أشياء سخيفة، الأمر الذي كان يثير غضبي وإشمئزازي ولكنّني كنتُ مجبراً على التحمّل، لأنّني كنتُ متأكدّ أنّ يوم سيأتي وتتحوّل أوضاعي جذرياًّ. وفي تلك الفترة، تعرّفتُ إلى جيهان وكانت فتاة جميلة ورقيقة ومهذّبة ومِن نظراتها وعدد زياراتها إستطعتُ أن أشعر بإهتمامها لي. وفي ذالك يوم سألتُها بكل وقاحة:
ـ هل تأتين إلى هنا لترَينني؟
إحمرَّت المسكينة وتمتمَت:
ـ أجل... أعني لا...
ـ لم أفهم... أجل أم لا؟
ـ لماذا تحرجني هكذا؟؟؟
ضحكتُ مطولاً وإقتربتُ منها وأخذتُ يدها وقبلّتُها قائلاً:
ـ لأنّكِ أيضاً تعجبينني.
وبدأنا نخرج سويّاً وتعرّفنا أكثر إلى بعضنا وأخبرتُها عن أحلامي وطموحاتي وشعرتُ أنّها قادرة على الوقوف إلى جانبي ودعمي. لذا قلتُ لها في أحد الأيّام:
ـ جيهان حبيبتي... إقبلي بي كما أنا اليوم وأعدُك أنّكِ ستصبحين رفيقة رجل مهّم يوماً... أريدكِ زوجة لي... في المرّ ثم في الحلو...
وهكذا تزوّجنا وعشنا مع والدتي وإخوتي الصغار الذين إستقبلوها كواحدة منهم وأمتلأ قلبي بالسعادة. وبعد بضغة سنين، تخرّجتُ أخيراً وأصبحتُ محامياً وأقفلتُ المحل لأعمل في مكتب كبير بعدما أوصى بي أحد أساتذتي، قائلاً لهم:" هذا الشاب لديه مستقبل واعد". ولكن رغم لقب "أستاذ" بقيَ الناس تناديني بِ "السكاّف" ما أثارَ إستنكاري ووعدتُ نفسي أن أزيل مِن رأس الجميع ذكرى جذوري المتواضعة.
لذا عملتُ ليلاً ونهاراً لأثبتَ لمديري جدارتي وأستحقّ أن أنتقل مِن مساعد محامي إلى رئيس قسم. وهكذا حصل، فأصبحتُ مسؤولاً عن القانون الجنائي في المكتب وبدأتُ أعمل على ملفاّت كل مَن أرتكبَ جريمة. وعندها دخلتُ عالماً بشعاً مليئاً بالأذيّّة وتعرّفتُ إلى المجرمين الذين لم يتردّدوا على قتل أصدقائهم أو أقاربهم وإزالة كل مَن إعترضَ طريقهم. وبِموجب عملي، كان عليّ الدفاع عنهم وإبراز برائتهم بالرغم أنّني كنتُ على علم بتورطّهم. وكلّما كان المتّهم مهمّاً أو ثريّاً، كلّما جنيتُ المال. في البدء وجدتُ صعوبة في الأمر وكان دفاعي ضعيفاً، لأّنّ ضميري كان يمنعني مِن أن يفلتَ مجرم مِن العدالة ولكن مع الوقت ومع المبالغ التي كنت أوعَد بها، خفَتَ صوت الضمير حتى أن سكتَ كليّاً ولم أعد أسمعه.
وبدأ المال يتدّفق عليّ حتى أن إستطعتُ شراء منزلاً جديداً مع حديقة وحوض سباحة لعائلتي ووضع أخوتي في مدارس خاصة. ولكنّني لم أقل لزوجتي أو أمّي أنّني بِعتُ نفسي مقابل كل ذلك خوفاً مِن التوبيخ. وحين كنتُ أدخل الحيّ في سّيارتي الجديدة، كان الناس ينظرون اليّ بِحسد وإحترام وكنتُ أبتسم فخوراً بما أنجزتُه. ومِن بعدها، قرّرتُ أنّه حان الوقت لكي يكون لنا ولداً وأنّه سيكبر بالعزّ ولن ينقصه شيئ ولن يعيش الطفولة التي مررتُ بها. وهكذا أنجبنا توفيق. لم أسمّي ولَدي على أسم والدي، خوفاً مِن أن تكون حياته تعيسة وشاقة رغم إصرار والدتي على ذلك:
ـ يا بنيّ... المال ليس كل شيء... أبوك كان إنساناً رائعاً وكان الجميع يحترمه...
ـ أجل... يحترمون السكاّف...
ـ لا عيب في العمل... إن كان شريفاً... هناك أغنياء لا يتردّدون على فعل الحرام...
وعندما قالت ذلك، شعرتُ بالخجل ولكنّني نسيتُ بسرعة حديثي معها بعدما أخبروني بقضيّة جديدة مربحة جدّاً. كان الرجل قد قتل زوجته ليرثها بعدما أصبح على خلاف معها وهدّدَته بالطلاق وكان سيجد نفسه دون أي شيء ففضّل أن يتصرّف بسرعة. وكانت القضيّة سهلة بالنسبة لي، لأنّ الزوجة كان لديها عشيقاً وقررّتُ أن أشير أصبع الإتهام عليه وأن أقنعَ المحلّفين أنّ ذلك العشيق قد يكون القاتل الحقيقيّ وأُبعد هكذا الشبوهات عن موكلّي. ولِكثرة إجتهادي، إستطعتُ لفتَ أنظار العدالة على العشيق، فأُّلقيَ القبض عليه وحوكمَ وأُصدرَ بحقّّه حكم بالسجن المؤبد وأُخليَ سبيل المجرم الحقيقيّ إي موكلّي الذي أغرقَني بالمال. وسافرتُ مع عائلتي إلى أوروبا لقضاء عطلة مليئة بالتسوّق واللهو ولم أشعر ولو بشيء مِن الندم على ما فعلتُه بالمسكين البريء.
ولكن بعد أشهر حدثَ شيئاً مروّعاً لِطفلي. فعندما كانت أمّه مشغولة في تحضير الطعام، زحف خارج سريره توجّه إلى حوض السباحة. وعندما عادَت إلى الغرفة وجدَت السرير فارغاً. فتّشَت المنزل كلّه لِتجده ميتّاً في الماء بعدما كان قد غرقَ المسكين. وبدأت بالصراخ وحاولَت إيقاظه وركضَت أمّي مِن غرفتها وكاَدت هي الأخرى أن تموت مِن الصدمة. وإتصّلَتا بالإسعاف ولكنّ الطفل كان قد فارقَ الحياة. لن أستطيع وصف وقوع الخبر عليّ ولكننّي شعرتُ أنّ جزءً كبيراً منّي كان قد مات مع إبني. ورغم حزني العميق، كان همّي الأوّل تهدئة جيهان التي أحسَّت أن الذنب ذنبها. كان عالمي قد أنهارَ فجأة وكل مال وألقاب العالم لم تكن قادرة على محو ما حصل وأعادة إبني لي. وبينما كنّا جالسين نبكي، دخَلَت أمّي وصَرَخَت بي:
ـ ما الذي فعلتَه؟
ـ أنا؟ لم أكن حتى في المنزل حين وقعَت المصيبة!
ـ ما الذي فعلتَه لكيّ يغضبَ ربنّا علينا هكذا؟؟؟ هل تظنّ أنّني غبيّة؟ هل تظنّ أنّني لا أعرف كيف أصبحتَ ثريّاً بهذه السرعة؟ إفحص ضميركَ يا إبني... لابّد أنّكَ فعلتَ شيئاً شنيعاً جداً...
ـ لا دخل لِعملي بما يحدث يا أمّي... هذه معتقدات قديمة وليس لها أي أساس... الناس تموت... هكذا هي الحياة...
ـ لا... كان أبوك فقيراً ولكنّه لم يؤذِ أحداً في حياته... عملَ بكدّ وإحترمَه الجميع... كان سكاّفاً شريف أمّا أنتَ فيجب أن يكون لَقَبكَ "المحامي الفاسد".
غضبتُ جداً مِن والدتي وكدتُ أن أردّ عليها بِعنف لولا لم تمنعني زوجتي مِن ذلك وخرجتُ مِن بعدها لأتنشّق الهواء النقي وأصفيّ ذهني. وفجأة ظهرَت إمرأة وقالت لي:
ـ ألستَ إبن السكاّف؟
ـ لا... أنا الأستاذ!
ـ أبوكَ كان أعظم رجل في الدنيا! عندما كنتُ صغيرة، كنتُ فقيرة ولم يكن لدّي حذاء وكنتُ أمشي حافية الرجلين... رآني في ذات يوم وناداني وقال لي:”تعالي يا صغيرة... سآخذ مقياس رجلَيكِ وأصنع لكِ أجمل حذاء! “... وما فعلَه لي أثّرَ بي كثيراً لِدرجة أنّني عندما كبِرتُ وتزوّجتُ مِن رجل ميسور قرّرتُ أن أُنشئ جمعيّة تُعنى بالأطفال الفقراء... الخير يجلب الخير والشرّ يجلب الشرّ... وأنا متأكّدة أنّكَ مثل أبيكَ تساعد المظلومين.
بكيتُ بِمرارة بعدما رحلَت تلك المرأة وتوجّهتُ فوراً إلى قسم الشرطة وأخبرتُهم أنّ الرجل المسجون هو بريء مِن تهمة القتل. ولأنّني أفسدتُ على موكّلي، تمّ نزع لقب المحامي منّي ولم أعد قادراً على مزاولة مهنتي، فأعدتُ فتح المحل. وإكراماً لولدي، خصّصتُ مبلغاً مِن المال بشكل هبة تحمل إسمه لِصناعة الأحذية للأطفال المحتاجين.
حاورته بولا جهشان