ركبت الطائرة باتجاه بيروت لحضور جنازة والدي... والدي الحقيقي. كنت متوترة جداً ليس لأنّني فقدت من أنجبني إلى هذه الدنيا بل لأنّني كنت سأقابل والدتي الحقيقية وأشقائي الذين بالكاد عرفتهم. فمنذ أكثر من 25 عاماً، أعطاني والديّ لغرباء!
عندما كنت في السابعة من عمري، أقيمت مسابقة في المدرسة ضمن إطار برنامج لمساعدة العائلات المحتاجة. أذكر أنّه طُلب منّا تقديم رسمة تجسّد برج إيفل وكتابة بضعة أسطر عن فرنسا. وقد حصلت على الجائزة الأولى!
فرحت كثيراً وظننت أنّ هديتي ستكون لعبة ما أو كتاباً أو بطاقة دخول إلى حديقة أو شيء من هذا القبيل... فكيف عساي أحزر أنّني ربحت حياة أخرى وسط عائلة لا تتكلم لغتي ولا تعرف شيئاً عن تقاليدي: عائلة بلا أولاد تحلم بأن يكون لديها طفل.
وفي إحدى الأمسيات، أطلعني والداي أنّني سأسافر قريباً إلى فرنسا فقفزت فرحاً ظناً مني أنّني ذاهبة في عطلة إلى أن أخبروني أنّ تلك الرحلة ستكون إلى الأبد.
كيف إلى الأبد؟ صحيح أنّنا كنا فقراء وأجر والدي لا يكفي ليعول أسرتنا الكبيرة ويسدّ حاجاتنا، لكنّني كنت سعيدة وأحب النوم مع أربعة أشخاص في الغرفة نفسها لنتكلم طيلة الليل ونتهامس ونتشارك الطعام القليل والملابس البسيطة. غرقت في دموعي وطلبت من أهلي مسامحتي على كل شيء وأقسمت إنّني لن أضايقهم البتّة ورجوتهم لكي يسمحوا لي بالبقاء واعدةً إياهم بأن أكون الأكثر هدوءاً على الإطلاق. ولكن لمَ أنا وليس شقيقتي أو شقيقي مثلاً؟ بكت أمي كثيراً وحاول أبي أن يشرح لي أنّ الأمر ليس عقاباً بل فرصة لإيجاد مستقبل أفضل. تأثّر إخوتي وأخواتي بصراخي وراحوا يبكون متمسّكين بقميص نومي وهم يتوسّلون إلى والديّ لكي لا يسمحا بحدوث ذلك.
ولكن في صباح أحد الأيام، أيقظتني والدتي في ساعة مبكرة وأدخلتني للاستحمام وسرّحت شعري وألبستني أجمل فستان لي لكنّني لم أذهب إلى المدرسة. قُرع الباب فكانت مديرة المدرسة وفي صحبتها ثنائي فرنسي. لقد جاؤوا لاصطحابي. لا داعي للمقاومة فإنّ والديّ تخليا عني. كانت حقيبتي جاهزة! خرجت من دون أن ألفظ كلمة وبالكاد قبّلت والديّ والحزن يعتصر قلبي.
حاول فرانسوا وباتريسيا، وهما في سن الأربعين تقريباً، كل ما بوسعهما لإنجاب ولد ولكن عبثاً! فكان عليهما اللجوء إلى خيار التبنّي وأرادا في الوقت عينه أن يقوما بعمل إحسان من خلال استقبال غريبة قادمة من بلد عاش الحرب. كانا يملكان الكثير من المال بما يضمن لي مستقبلاً آمناً. لم يوفّرا أيّ مجهود لجعلي أتأقلم مع الحياة الجديدة وكانا يدللانني كثيراً وأنا أتظاهر بالسعادة، أمّا في الليل حين كنت أجلس وحدي في غرفتي الكبيرة، كنت أبكي بمرارة إلى أن يتغلب عليّ النعاس. لم أكن أحب ذاك البلد البارد وذاك المنزل الكبير الفارغ وأولئك الأشخاص الذين ينظرون إليّ بعطف. لم أحبّ ألعابي الجديدة ولا ملابسي الجديدة ولا تلك المطاعم الراقية التي كنا نذهب إليها. أردت العودة إلى دياري، إلى البؤس في ذاك المنزل الدافئ الصغير المليء بالحب لأتناول حساء العدس من يديْ والدتي.
مرّت السنوات وانتهى بي الأمر بأن اعتدت على حياتي الجديدة وتبخرت رويداً رويداً ذكرياتي في بيروت وصرت أعتبر فرنسوا وباتريسيا والديّ الحقيقيين. انخرطت تماماً في الأجواء ولم أعد "الفتاة اللبنانية الفقيرة الصغيرة" بل مواطنة فرنسية بكل ما للكلمة من معنى. في البداية، رحت أتلقى أخباراً من عائلتي من خلال رسائل لم أرد عليها. ثم توقفت تلك الرسائل وصار لهم حياتهم ولي حياتي وبيننا مسافة تبعد آلاف الكيلومترات. كنت مجتهدة جداً في دروسي فتسجّلت في كلية الطب وأصبحت طبيبة أطفال.
وفي أحد الأيام وصلني من لبنان خبر وفاة والدي. فاسترجعت حينئذٍ كل القصة وكل الذكريات، وعادت إليّ صورة والدي الأخيرة بوجهه المليء بالدموع. كنا قريبين جداً من بعضنا لكنه تخلى عني ولم أتمكن من مسامحته. بعثت برسالة إلى أهلي أعلمتهم بها عن قدومي ولكن بلهجة رسمية جداً كي لا يظنوا أنّ اللقاء سيكون حميماً. لدى وصولي إلى المطار وجدت رجلاً يحمل بطاقة عليها اسمي فقدّم لي رسالة في داخلها ورقتان واحدة من أمي والأخرى من أبي.
فتحت الأولى: "عزيزتي، أردنا القدوم إلى المطار لاستقبالك ولكنّني أظنّ أنّ من الأفضل لك أن تقرئي هذه الرسالة قبل وآمل أن تساعدك رسالة والدك على الفهم. أمك". قرأت الورقة الثانية وأنا أرتجف: "ليليان، حبيبتي الصغيرة الغالية، أنا مريض وأعرف أنّ أيامي صارت معدودة ومحكوم عليّ الآن بالموت. أمنيتي الأخيرة أن أراك مجدّداً وأضمك إلى صدري وأسمعك تقولين "أبي" للمرة الأخيرة. أطلب منك السماح فإنّ ما فعلته كان من أجلك. كنت المفضّلة عندي وأردت لك حياة أفضل بعيداً عن البؤس. هل تظنين أنّني تخليت عنك؟ لم يمرّ يوماً واحداً من دون أن أفكر بك ولم يغمض لي جفن إلاّ وصورتك في عينيّ. بالتأكيد صرت امرأة جميلة وفخورة بنفسك وعازمة كما كنت على الدوام. كنت قاسية جداً مع والدتك ومعي. سامحينا لكي تتمكن روحي من أن ترقد بسلام".
بكيت كثيراً! لقد اشتقت إليه وإلى الجميع. حين وصل التاكسي إلى منزل أهلي، وجدتهم عند الدرج ينتظرونني. بالكاد عرفت والدتي وأشقائي تبدّلوا كثيراً. نظرنا إلى بعضنا بصمت لبضع لحظات ثم تركت حقيبتي وارتميت في أحضانهم. بعد أيام قليلة على الجنازة، عدت مجدداً إلى باريس ولكن هذه المرة لأرتّب الأمور وأعود إلى البلد نهائياً. عليّ استرجاع السنوات الضائعة ومصالحة عائلتي ووطني وذاتي.
حاورتها بولا جهشان