بالخبز والحبّ

كنتُ أملكُ هذا المخبَز الصغير الذي يحملُ اسم عائلتي منذ أكثر مِن ثلاثين عامًا. وكان المكان يعجُّ برائحة الخبز الطازج والبسكويت الهشّ والكعك المحشوّ بالمكسرات، مذ كنتُ شابّةً في العشرينات مِن عمري. هنا، كنتُ أضعُ قلبي وروحي في كلّ وصفة، في كلّ رغيف وكلّ قالِب كعك. كان المخبَز امتدادًا لي، قطعةً مِن روحي لا أستطيع تخيُّلها في يَد شخص آخَر.

ولكن جاءَ اليوم الذي وجَدتُ نفسي فيه مُجبَرةً على بَيعه... فالعمر تقدَّمَ، والجهد أصبَحَ أثقَل مِمّا أستطيع تحمّله. نصحَني الناس بتَرك العمَل والبحث عن الراحة، لكن كيف أتركُ شيئًا أحببتُه لهذه الدرجة؟ وبالرغم مِن ذلك، وافَقتُ على مضَض، وبدأتُ البحث عن شخص يشتري المكان ويُديره بدَلًا منّي.

ثم جاءَت "ليلى"، شابّة في أوائل الثلاثينات، طموحة ومليئة بالحيويّة، وكان شرطي لها أن أُدرِّبها على الوصفات لتُحافِظ على الجودة التي تعوَّدَ عليها زبائن المحلّ، وإن فشلَت في التدريب، أمتنِع عن بَيعها المكان. لكن منذ اللحظة الأولى التي قابلتُها فيها، شعرتُ أنّني لا أُحبُّها. لا أعلَم ما السبب تحديدًا، ربّما كانت ثقتها المُفرطة، أو لأنّني شعرتُ بالخوف مِن فكرة أن يأخذ شخص آخَر مكاني، ويفرض أسلوبه الخاصّ على ما كنتُ أعتبرُه عالَمي. كان ذلك شعور ينبَع مِن داخلي، فكبَتُّه وتظاهَرتُ بالفرَح.

بدأتُ أُراقِب كلّ حركة تقومُ بها تلك الصبيّة بِعَين الناقِدة. وعندما طلبتُ منها خبز كعكة الشوكولاتة المشهورة لدَينا، قدَّمتُ لها الوصفة، لكنّني "نسيتُ" أن أُخبِرها عن التعديلات الصغيرة التي تجعلُها مثاليّة. "إنها تحتاج إلى درجة حرارة أقل"، قلتُ لها بإبتسامة بارِدة، بعد أن لاحظَت أنّ أطراف الكعكة قد احترقَت.

إلّا أنّني لَم أتوقَّع أن تأخذ ليلى الأمر بروح رياضيّة، فاعتذرَت بابتسامة هادئة، وأعادَت المحاولة في اليوم التالي. كانت الكعكة أفضَل، لكنّها لم تكن بمستوى الكمال الذي اعتادَ عليه زبائني. في تلك اللحظة، شعَرتُ بنشوة صغيرة: "لا أحَد يُمكنه أن يكون مثلي!"، قلتُ لنفسي.

وصِرتُ أختبِر ليلى بكلّ الطرق المُمكنة: ذات مرة، تعمَّدتُ أن أُعطيها أكياس الدقيق الخاطئة، فبدلًا مِن الدقيق الناعِم الذي يُناسب وصفة الكعكة الإسفنجيّة، أعطيتُها دقيقًا مُخصّصًا للخبز الثقيل. جلستُ في الزاوية أراقبُها وهي تكافِح لتحصل على الخليط المثاليّ، وعندما خرجَت الكعكة ثقيلة ومطّاطيّة، لَم أتمالَك نفسي عن تعليق ساخِر: "ربّما تحتاجين إلى فَهم أفضل للمكوّنات".

وفي يوم آخَر، عندما طلبتُ منها خبز البسكويت المشهور لدَينا، أخفَيتُ القوالب المعدنيّة التي نستخدمُها لتقطيع الأشكال المُميّزة. إنتظرتُ أن تُعلِن استسلامها، لكنّها بدَلًا مِن ذلك صنعَت أشكالًا يدويّة، بعضها كان يبدو فوضويًّا، لكن الآخَر كان مُميّزًا بِلمسة فنّيّة مُبتكرة. وبدَلًا مِن أن أشعر بالرِضا مِن فشَلها، وجدتُ نفسي مُندهِشة مِن ابداعها.

لكنّ ليلى لَم تستسلِم. بدأتُ ألاحِظ أنّها تأتي إلى المخبَز في وقت مُبكِر وتُغادر في وقت متأخِّر. كانت تسألُني عن كلّ صغيرة وكبيرة، وتُحاول أن تفهَم كلّ شيء عن وصفاتي وتقنيّاتي. في البداية، كنتُ أُجيب بشكل مُختصَر، وربّما حتّى بشكل غامِض. لكنّها لَم تفقد صَبرها.

في أحَد الأيام، بينما كنتُ أراقُبها وهي تُزيّن كعكة، لاحظتُ أنّ يدَيها تعملان بِخفّة ومهارة. كان هناك شيء مألوف في طريقتها، شيء يُشبه الطريقة التي كنتُ أعمَل بها عندما بدأتُ هذا العمَل. فجأة، شعرتُ بوخزة خفيفة في صدري: هل كانت ليلى تُذكّرني بنفسي؟

وبدأتُ أرى الأمر مِن زاوية مُختلفة. كانت ليلى تعمَل بجدٍّ لا يُصدَّق، كانت تُجرِّب وصفات جديدة، تتعلّم مِن أخطائها، وتُظهر حبًّا حقيقيًّا لِما تفعله. شيئًا فشيئًا، بدأتُ أُعجَب بها، بالرغم مِن أنّني لَم أرغَب في الاعتراف بذلك لنفسي.

ذات يوم، عندما كنّا وحدنا في المخبَز، قرَّرتُ أن أختبرُها لآخِر مرّة. أعطيتُها وصفة قديمة لم أكن أُشارِكها مع أحَد. وقلتُ لها: "هذه واحدة مِن أصعَب وصفاتي. إن تمكّنتِ مِن اعدادها بشكل مثاليّ، سأعرِف أنّكِ جاهزة لإدارة المكان".

إبتسمَت ليلى وقالَت بثقة: "سأفعلُ ما بوسعي".

في اليوم التالي، كانت الكعكة جاهزة. وعندما تذوّقتُها، وجَدتُها... مثالية، تمامًا كما كنتُ أعدُّها أنا! للحظة، شعرتُ بمزيج مِن الفخر والحزن. فكان مِن الصعب الاعتراف بأنّ شخصًا آخَر يُمكنه أن ينجّح في ما اعتبرتُه مُلكيّتي الخاصّة.

لكنّني أدركتُ أنّ هذا النجاح لم يكن مجرّد صدفة، فليلى عملَت بجدٍّ وتعلّمَت مِن كلّ خطأ اقرفَته بسببها... أو بسببي. وكانت تستحقُّ الاحترام.

وبينما كنتُ على وشَك الاستسلام للأمر الواقَع، جاءَني اقتراح مِن قِبَل التي كانت ستأخُذ مكاني ومُلكي وذكرياتي.

فقالت لي: "سيّدتي، لقد فكّرتُ في شيء. ماذا لو لَم يكن هذا المخبَز لي وحدي؟ ماذا لو عملنا معًا كشريكتَين؟ سأُقدِّم المال وأنتِ الخبرة... ولن يكون عليكِ التواجد باستمرار هنا، بل ترتاحين ساعة تشائين. هذا المكان هو أنتِ، وأعلَمُ أنّني لستُ سوى دخيلة على مَملكة أقَمتِها بعرَق جبينكِ وحبّ الناس لكِ. إنّ المخبَز لن يكون نفسه إن رحَلتِ عنه تمامًا".

حدَّقتُ فيها بدهشة، فلَم أتوقّع هذا الاقتراح. شعرتُ بدموعٍ صغيرة تملأ عَينَيّ، فلَم تكن ليلى تُحاول أن تُثبِت أنّها أفضَل منّي، بل كانت تريدُني أن أظلّ جزءًا مِن هذا المكان الذي أحببتُه.

فكَّرتُ مليًّا ووافقتُ أخيرًا... وأصبَحنا شريكتَين. واليوم، بعد كلّ تلك الأشهر مِن الشكّ والتحدّي، أستطيع القول إنّني أسعَد مِن قَبل. فقد أضافَت ليلى لَمستها الخاصّة، وجعلَت المخبَز أفضل مِمّا كان. وأنا؟ وجدتُ أنّني أحبَبتُ العمَل بجانبها، كمُعلِّمة وصديقة... وأمّ! فتلك الصبيّة ملأَت حياتي بشبابها وحماسها، ووجَدتُ نفسي أكنُّ لها مودّة عميقة شبيهة بتلك الموجودة بين أمّ وابنتها. فأنا لَم أتزوّج ولَم أحظَ بفرصة الأمومة لكثرة انشغالي بالمخبَز وإصراري على انجاحه... فمرَّت السنوات مِن دون أن أُلاحِظ الخيوط الفضيّة التي اجتاحَت شعري والخطوط التي ملأت وجهي. ولكن ها أنا قد ربِحتُ ابنة وشريكة، وبقيتُ موجودة في "مَملكتي"... ما أكرمَكَ يا ربّ! وهكذا، إستمرَّ اسم عائلتي، لكن بروح جديدة، روح تجمَع بين خبرتي وشباب ليلى.

كنتُ أخشى التغيير في البداية، لكنّني تعلّمتُ أنّ الحبّ الحقيقيّ لِما نفعله، يُمكن أن يُزهِر في قلوب الآخَرين أيضًا.

وربّما، في نهاية المطاف، هذا هو ما يعنيه أن تكون الحياة مليئة بالخبز والحبّ!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button