أتذكّر بِوضوح يوم باعَني أبي. كنتُ في السادسة مِن عمري وفي ذلك اليوم كان قد طلَبَ منّي أن أرتدي أجمل فستان لدَي. ومِن ثمّ نادى جارتنا التي سّرَحت شعري ورشَّت عليّ العطر قبل أن تبدأ بالبكاء. وصعدتُ مع والدي في سيّارة أجرة وعَبرنا الحدود الى لبنان. بقينا صامتَين طوال الوقت ولولا حديث السائق معنا والأغاني التي كانت تخرج مِن المذياع لَسألتُ نفسي عن سبب هذا الصمت وعَن سبب اختفاء اخوَتي وأخواتي مِن المنزل في ذلك الصباح. ووصلنا أمام مبنًى جميل وصعِدنا طابقاً واحداً وفتحَت لنا امرأة في الأربعين مِن عمرها.
تركَ أبي يدي وطلبَ منّي أن أنتظره عند المرأة مضيفاً أنّ عليه القيام ببعض الأعمال وأنّ غيابه لن يطول. جاء زوج المرأة وأعطى والدي مبلغاً مِن المال ورَحَلَ أبي مِن دون أن يقبّلني. كانت تلك آخر مرّة أراه فيها.
وأخَذَتني المرأة الى المطبخ وقدّمَت لي كوباً مِن العصير وقطعة حلوى. وعندما انتهَيتُ مِن الأكل أخَذَتني بيَدي الى غرفة جميلة مليئة بالألعاب وقالَت لي أنّها ستكون غرفتي. وحضّرَت لي الحمّام وأعطّتني ثياب نوم زهريّة اللون. فعلتُ كما طلبَت منّي لأنّني اعتقدتُ أنّني سأكون ضَيفتها لليلة واحدة ولأنّني كنتُ فتاة مهذبة ومطيعة. وعندما حان وقت النوم جاءَت المرأة وأخبرَتني قصّة جميلة وغصتُ في نوم عميق.
كان أبي قد باعَني لهذان الشخصان كخادمة وبديلة لِفراغ خلقه عقم الزوج. عندما أدركتُ الحقيقة قبِلتُ بهذا الواقع المرير كما قبِلتُ موت أمّي التي لم تعش كفاية لِتتعرّف إليّ. ماتت وهي تولِدني وكأنّها تغسل يدَيها مِن الذي كان مقدّرًا أن يحصل.
وبالرغم مِن سنّي علمتُ بِقرارة نفسي أنّني لن أرى قبل وقت طويل وطني أو أي مِن معارفي أو حتى أخوَتي وأخواتي.
أرباب عملي الجديدان، نادين وجان، كانا أناسًا لطفاءً ومحبّين. عمِلا جهدهما كي أنسى هجر أبي وأنا مِن ناحيتي فعلتُ المستطاع لأريهما أنّني لم أتأثّر بذلك. ولكنّني كنتُ أنتظر بِفارغ الصبر أن يحلّ الليل لأبكيَ في سريري على سجّيتي.
ومع الوقت بدأتُ أرتاح لذلك المنزل وللعيشة هناك. الجوّ كان عائليًّا ومريحًا وشعرتُ بالدفء وسط أهله. العمل لم يكن شاقًّا بل بالعكس كانت نادين تقوم بِمعظمه. كنتُ أساعدها فقط. أصدقاءهما كانوا دائمًا يستغربون حسن معاملتهما لي كوني خادمة وأتذكّر أن الجميع كان ينبّهما مِن هكذا تراخي. ولكنّ نادين وجان كانا يعتبراني فردًا مِن العائلة. مِن ناحيتي كنتُ لا أزال أجد صعوبة في نسيان الذين تركوني عند غرباء وفي بلد غريب.
وفي ذات ليلة جاءَت نادين الى غرفتي وسألَتني إن كنتُ أريدها أن تعلّمني القراءة والكتابة. وافقتُ بِسرور لأنّني لم أذهب يومًا الى المدرسة بِسبب فقرنا ولأنّني كنتُ أنظر بِحسد الى الأولاد وهم ذاهبون لِتحصيل العلم والمعرفة. وعانقتُها مطوّلاً ولأوّل مرّة في حياتي شعرتُ بما يُسمّى حنان الأمّ.
في البدء تعذّبتُ كثيرًا في التعلّم ولكنّني ضاعَفتُ مجهودي اكرامًا لِنادين. كنتُ أعلم أنّني لن أصبح مِن ذوات الشهادات ولكنّني كنتُ متأكّدة أن حياتي ستتحسّن. ولأنّ نادين كانت في فيما مضى مدرّسة عَرِفَت كيف تتعامل مع تلميذة أميّة وتلقينها مبادئ القراءة والكتابة بِسرعة فائقة.
أمّا جان فكان يأخذني لِنتَنَزّه وأكل المثلّجات واللعب في الحدائق.
ومرَّت الأشهر والسنين وأصبحتُ صبيّة متعلّمة وجميلة وأبدَيتُ رغبتي في ايجاد عمل. ولكنّني لم أكن أملك الجنسيّة اللبنانيّة فاستحال الأمر. لِذا عَرَضت عليّ نادين تزويجي الى شاب مِن ضَيعتها. وعندما التقَيتُ به انتابَني خوف شديد بِسبب شكله فكان المسكين فائق البشاعة والمظهر وبسيطًا بعض الشيء. ولكن نادين طمأنَتني:
ـ لن يكون زوجكِ إلاّ على الورَق... طانيوس شاب بسيط وقبِلَ أهله بهذا الزواج الأبيض.
ـ ولن أعيش معه؟
ـ لا... ستبقين هنا وهو سيظلّ في الضَيعة... كل ما نحتاج اليه هو أن تحصلي على الجنسيّة لِتكوني قادرة على العمل والعيش كما يحلو لكِ... ومِن بعدها ستحصلين على الطلاق... ثقي بي يا حبيبتي.
ومِن بعد مراسيم الزواج عدتُ فورًا الى المنزل كما وعَدَتني نادين. وعند حصولي على الأوراق القانونيّة باشرنا في الطلاق ووجدتُ عملاً كَسكرتيرة في مؤسسّة صغيرة.
وفي ذات يوم قرّرتُ أن أزور بلدي وأرى عائلتي. أعطَتني نادين العنوان وجعلَتني أقسم لها بالعودة. وعند وصولي استقبَلني الجميع بِمودّة ولكن مِن دون حرارة. لم أتوقّع أكثر مِن ذلك لأنّهم كانوا بالكاد يعرفوني. كان أبي قد فارَقَ الحياة بعدما دهسته آلة حراثة. وبعد أن مكثتُ حوالي الأسبوع معهم قررتُ العودة فهؤلاء الناس كانوا بالنسبة لي غرباء وعائلتي الحقيقيّة كانت بانتظاري في بيروت.
ولكنّني لم أكن على علم بِمَرض نادين التي عمِلَت جهدها على اخفاء حالتها عنّي.
وعندما عدتُ الى لبنان وجدتُها بالمستشفى تتعالج مِن السرطان الذي كان قد بدأ يأكل جسمها. وانهار عالمي وبكيتُ مع جان الذي كان يدرك أنّه سيخسر قريبًا حبّ حياته. وعاودَني الشعور نفسه الذي مرَرتُ به عندما ترَكَني أبي وبدأتُ أصليّ لإلهي وإله نادين وأطلب منهما أن يتركا لي أمّي الثانية.
ولكنّ قدّر نادين كان قد رُسِم. وقبل أن تموت بِبضعة دقائق قالت لي وهي تمسك بِيَدي:
ـ أحبَبتُكِ لحظة ما رأيتُكِ واقفة أمامي عند الباب... واعتبرتُكِ ابنتي منذ ذلك الحين ولكنّني خِفتُ أن ترفضي عاطفتي القويّة أو أن تخافي منها... لم أشأ يومًا أن تكوني خادمة... سامحيني إن كنتُ قد أسأتُ اليكِ بشيء.
ـ بالعكس...
ـ انتبهي لِجان... سيكون في ضياع بعد رحيلي... لم يعد لديه سواكِ... عديني... عديني...
ـ أعدُكِ... يا ماما.
وبسبب تكاليف العلاج الباهظة وحالته النفسيّة بعد موت زوجته، لم يعد جان قادرًا على العمل فوَجَدَ نفسه في ضيقة ماليّة.
وكان فد حان الوقت لأردّ لهذا الرجل العظيم شيئًا مِن الذي فعلَه مِن أجلي. فإلى جانب استقباله ومعاملته الحسنة لي كان قد أعطاني الكرامة التي سلَبَها منّي أبي عندما باعَني. لِذا بدأتُ أعمل دوامًا إضافيًا في الشركة ولم أشتكِ يومًا رغم تعَبي.
ومِن جرّاء حزنه على زوجته ساءَت صحّة جان بشكل ملحوظ وبات لا يبارح الفراش إلاّ نادرًا. فكنتُ التي ساعَدَته على الأكل والاغتسال وارتداء ملابسه. وبعد ثلاثة سنوات ذهََب يلاقي التي أحبّها دون توقّف.
وبعد مماته اكتشفتُ أن جان تركَ لي المنزل كي لا أجد نفسي في الطريق. كان حتى آخر لحظة قد فعَلَ المستحيل مِن أجل الابنة التي لم ينجبها والتي اختارها بِنفسه. فعلِمتُ مِن كاتب العدل أنّ اثناء احدى سفراته الى بلدنا رآني جان جالسة أمام بيتنا الحقير مرتدية ثيابًا متّسخة وفي عَينيّ نظرة حزن. عندها وعَدَ نفسه أن يجعل منّي فتاة سعيدة. وأوفى بِوعده حتى آخر نَفَس.
حاورتها بولا جهشان
