عندما ماتَ زوجي، وجدتُ نفسي وحيدة مع ثلاثة أولاد وديون لا نهاية لها. أدركتُ أنّ مشواري سيكونُ شاقًّا، لأنّ أهلي وأهل زوجي كانوا هم أيضًا يُصارعون الفقر. فالحقيقة أنّ المرحوم كان مِن بيئتي ومُحيطي، أيّ أنّنا وُلِدنا وعشنا في القلّة وللأسف هو لَم يكن مؤهّلًا ليُخرجنا مِن الضيق، ولَم يتحلَّ بالطموح اللازم للمُجازفة واختبار مِهنة جديدة أو آفاق مُغايرة. وللأسف أيضًا، هو منعَني مِن العمَل حين تزوّجنا، لأنّه كان يغارُ عليّ ويُريدُني له وحده ولبيته وأولاده. ولو كنتُ أعمَل، لَوصَلتُ إلى درجة تُخوّلني العَيش وأولادي بشيء مِن الراحة والاطمئنان. آه، لو أنّنا نَعي ما نفعله باسم الحبّ عندما نقَع في الغرام، لَعدَلنا عن تلك القرارات التي لا تُفيدُنا لاحقًا لا بل تضرُّنا.
ركضتُ أبحَث عن مورِد رزق بعد مراسم الدفن مُباشرة، وقبل أن يأتي الجابي ويُطالِب بثمن فواتير أرجأناها مرارًا. ففي كلّ مرّة كنّا نقولُ لمَن يطرقُ بابنا لتحصيل حقّه إنّنا سندفَع له فور حصول زوجي على راتبه، لدرجة أنّ هؤلاء لَم يعودوا يُصدّقوني. وها قد ماتَ الذي كان يجني مالنا، فما بإمكاني فعله سوى القبول بأيّ عمَلٍ كان؟
حظيتُ بوظيفة في سوبر ماركت كبير كعاملة رفوف، لأنّني لَم أكن أملك أيّ خبرة في أيّ مجال، وكان الدوام طويلًا وشاقًّا إذ أنّه كان غير مسموح لنا أن نرتاح سوى لفترة قصيرة مرّة في النهار. لحسن حظّي أنّ أولادي لَم يعودوا أطفالًا وبإمكانهم البقاء في البيت لوحدهم، وإلّا اضطرِرتُ للبحث عن عمَل آخَر. وذات مساء، حين عدتُ إلى البيت، وجدتُ أولادي الثلاثة بانتظاري قرب الباب وعلى وجوههم بسمة عريضة. ظننتُ أنّهم حصلوا على علامات جيّدة في المدرسة ويشعرون بالفخر، لكنّ ابنتي البِكر قالَت لي وهي تُعطيني ظرفًا بِيَدي:
ـ خذي يا ماما... لقد وجدناه تحت الباب لدى عودتنا... لا تغضبي منّا لكنّنا فتحنا الظرف... وأنظري!
رأيتُ في الظرف مبلغًا مِن المال يكفينا لحوالي أسبوعَين، فبدأتُ بالصراخ مِن كثرة فرَحي قَبل أن أستوعِب أنّ عليّ أن أسأل نفسي عن هويّة المُرسِل. فلَم يكن هناك مِن شيء مكتوبًا على الظرف أو داخله. مَن يا تُرى أرادَ مُساعدتي في محنتي؟ رفعتُ عَينَيّ إلى السماء وشكرتُ الله.
لكن بعد حوالي الشهر، علِمتُ مَن يكون المُحسِن الذي أرسَلَ لنا المال. فلدى عودتي باكِرًا مِن السوبر ماركت بعد أن شعرتُ بدوار مُفاجئ وأُذِنَ لي بترك عمَلي، وجدتُ جارنا في المبنى راكِعًا أمام بابنا يُحاول تمرير ظرفًا تحته. ركضتُ إليه قائلة:
ـ هذا أنتَ إذًا... لماذا تفعل ذلك؟
ـ أنا آسِف... لَم أكن أُريد أن تعرفي هويّتي، على الأقلّ ليس الآن. أُساعدُكم لأنّني أعي صعوبة وضعكم بعد موت ربّ البيت، وأرى كيف صرتِ تقضين يومكِ في العمَل لتعودي مُنهكة.
ـ شكرًا جزيلًا لكَ أستاذ زياد لكن...
ـ إسمعي... أنا عازِب كما تعرفين وليس لدَي أولاد، ولو رُزِقتُ بهم لكانت لي مصاريف كثيرة وهذا ليس شيئًا مُقارنةً بما كنتُ سأدفَعه. إقبَلي مُساعدتي أرجوكِ، فهذا واجب على كلّ انسان، أعني مُساعدة أخيه.
أقنعَني الرجُل، خاصّة انّني كنتُ أكنُّ له احترامًا كبيرًا لأنّه لطالما كان جارًا هادئًا لا يتدخّل بأحَد ويتحلّى بالتهذيب والاحترام. لَم أكن أعرفُ عنه الكثير سوى أنّه محامٍ سابِق تقاعَدَ منذ فترة قصيرة، ويعيشُ لوحده منذ وفاة أمّه التي كانت سيّدة قويّة الطباع والمزاج. تساءلتُ مرارًا إن كانت هي التي منعَته مِن الزواج لإبقائه لنفسها، لأنّه كان كالصبيّ الصغير أثناء وجوده معها. لكن قبولي لمُساعدته كان مشروطًا بأن أطهو له طبَقًا مِن الطعام كلّ يوم، فهكذا كنتُ أُبادِله المعروف. إتّفَقنا أخيرًا وأخذتُ الظرف منه وهو عادَ إلى شقّته في الطابق الأسفل.
للحقيقة، أسعفَني كثيرًا المبلغ الذي صارَ يأتيني مِن زياد، فاستطعتُ أن أشتري لأولادي ملابس جديدة، وأدفَع العديد مِن الفواتير المُتكدِّسة عليّ. مِن جهة أخرى، صارَ المحاميّ يأكلُ طعامًا صحّيًّا يُذكِّره ربّما بأطباق أمّه الحبيبة. كنتُ أرسلُ له الطعام مع أيمَن ابني الأصغَر حين يعودُ واخوَته مِن المدرسة وبعد أن يتناولوا الغداء وقبَل أن يبدأوا بالدرس. وعندما أعودُ في المساء، كنتُ أسمَع الإطراء بشأن طهوي مِن قِبل زياد. كلّنا كنّا سعيدين، فلَم يخطر ببالي شيء على الاطلاق.
بعد فترة، وجدتُ مع أيمَن لعبة جديدة لَم أشترِها له، فسألتُه مِن أين جاءَ بها وهو أجابَ:
ـ الأستاذ زياد أهداها لي لأنّني آتي له بالطعام.
ـ ماذا قلتُ لكَ وأخوَتكَ بشأن عدَم أخذ أيّ شيء مِن الغرباء؟
ـ لكنّ الأستاذ زياد ليس غريبًا يا ماما، بل هو جارنا ويأكل مِن طعامنا.
ـ حسنًا، سأسمحُ لكَ بإبقاء هذه اللعبة معكَ، لكن إيّاكَ أن تأخذ أيّ شيء آخَر منه!
غضبتُ مِن الذي حصَل لكنّني تفهّمتُ موقف ابني، فالأهل مُعتادون على تنبيه أولادهم مِن الغرباء فقط، ويحصل سوء تفاهم بهذا الشأن. على كلّ الأحوال، كانت تلك لعبة وحسب ولا داعٍ لتكبير الموضوع.
مرَّت حوالي ثلاثة أسابيع، عندها قال لي ابني الأوسط:
ـ ماما، أُريدُ أن أوصِل أنا الآخَر الأطباق للأستاذ زياد.
ـ ولماذا يا حبيبي؟ طلبُكَ غريب!
ـ لأنّه يُعطي أيمَن أشياء جميلة.
ـ مثل ماذا؟!؟
ـ أعطاه هاتِفًا خلويًّا منذ أسبوع.
ـ ما هذا الكلام؟ هل أنّكَ تكذِب عليّ؟ لو كان ذلك صحيحًا لرأيتُ الهاتف أو سمعتُه!
ـ أبدًا يا ماما، أنا أقولُ الحقيقة. لكنّ الأستاذ طلَبَ مِن أخي أن يُبقي الصوت خافِتًا طوال الوقت.
ـ أين الهاتف؟؟؟؟ أرِني إيّاه الآن!
حمَدتُ ربّي أنّ ابني الصغير موجود عند صديق له ولَم يأخذ معه هاتفه الجديد، ففتحتُه ويدايَ ترتجفان لأنّ شيئًا قالَ لي إنّ المُحتوى الذي سأجِده سيكون خطيرًا، ولَم أكن مُخطئة. لكن، لِحسن حظّي وحظّ صغيري، كان فقط بداية ما أُسمّيه "عمليّة تقرّب". فذلك المُحاميّ القذِر تبادَلَ رسائل مع ابني مفادها أنّه يجِده وسيمًا للغاية وبطَلًا شُجاعًا، لأنّه أخفى عنّي الهاتف وأنّني لستُ أمًّا جيّدة لأنّني أمنَع ابني مِن أن تكون له أشياء جميلة كاللعبة التي حصَلَ عليها منه. إضافة، حثَّ زياد ولَدي على الكذب عليّ، وطلَبَ منه أن يقَصده لقضاء بعض الوقت معه ليتعرّف عليه أكثر، ويقوما بنشاطات عديدة ومُسلّيّة سويًّا. كيف لرجُل ناضِج أن يُصادِق ولَدًا في التاسِعة مِن عمره؟!؟ إجابات صغيري لهذه الرسائل كانت عاديّة، وكأنّه يتكلّم مع صبيّ مِن سنّه، لكن بحماس بائن ربّما لفكرة قيامه بأمر سرّيّ ومُثير كما يحدث مع أولاد في مثل عمره. وخطَرَت فجأة ببالي فكرة لأتأكّد مِن شكوكي. فلقد استفَدتُ مِن غياب ابني لأُرسل لزياد هذه الرسالة:
ـ مرحبًا... أشعرُ بالملل... هل لنا أن نتبادَل الرسائل؟
ـ طبعًا يا صغيري... قُل لي، هل أمّكَ تشكّ بأنّنا على تواصل؟
ـ أبدًا... أكرهُها فهي تصرخُ عليّ دائمًا!
ـ أجل، لأنّها كما قلتُ لكَ أمّ سيّئة ولا تفهمُكَ على الاطلاق... أنا الوحيد الذي يفهمُكَ والذي يجب أن تثِق به... أين هي الآن؟
ـ إنّها عند صديقة لها وأنا لوحدي مع اخوَتي. أختي تدرس في غرفتها وأخي يُشاهد التلفاز.
- لِما لا تأتي إليّ سرًّا الآن؟
ـ سرًّا؟ كيف؟
ـ أُخرُج مِن البيت مِن دون إصدار أيّ صوت وتعال... سنلعَب تلك اللعبة التي لعبناها في آخِر مرّة.
ـ أيّ لعبة؟
ـ هل نسيتَ؟ عندما جلستَ على حضني وادّعَيتُ أنّني حصان وأنتَ فارسي.
أطلقتُ صرخة عالية، لأنّني فهمتُ ما جرى وكان سيجري لو لَم أكتشِف أمر الهاتف!
لكنّني استطعتُ تمالك نفسي وكتابة: "حسنًا، سآتي الآن، لكن لبضع دقائق فقط".
دقّيتُ باب زياد وجسمي يرتجِف بكامله، ففتَحَ لي ذلك الشاذ وهو يرتدي روبًا ليليًّا مفتوحًا عند صدره. وعندما رآني تلعثَمَ وحاوَل إغلاق الباب في وجهي، لكنّني منَعتُه مِن ذلك وصرختُ به:
ـ أيّها النَذل المُنحَطّ! أيّها الشاذ! تهوى الصبيان الصغار؟!؟ ألهذا السبب لَم تتزوّج؟!؟ عار عليكَ أن تستفيد مِن عوز أرملة لتدخل عائلتها وتُحاول سرقة ابنها منها كالذئب اللعين! ماذا كنتَ تنوي فعله بابني الليلة؟!؟ إسمَع، إن وجدتُكَ في المبنى غدًا فسأطلب الشرطة. لدَيكَ حتّى الغد لتأخذ أمتعتكَ وترحَل، ولستُ أمزَح! وإن كنتَ لا تُصدّقني فابقَ!
وقَبل أن أُغادِر بصقتُ في وجهه لكثرة اشمئزازي منه.
عادَ ابني الصغير مِن عند صديقه، فجلستُ معه لوحدنا لنتكلّم. في البدء هو غضِبَ منّي كيف وجدتُ الهاتف، وبدأ يتّهمُني بأنّني أمنعُه مِن أخذ الهدايا مِن زياد. إستمَعتُ إليه جيّدًا ثمّ قلتُ له إنّ زياد رجُل ناضِج، فليس مِن المنطق أن يتصادق معه. ثمّ أضَفتُ أنّ الهدايا ليست مجّانيّة فعلينا الردّ بهدايا أخرى، وسألتُه إن كان لدَيه المال لشراء هدايا لزياد. إضافة إلى ذلك، شرحتُ له أنّ لعبة الحصان ليست سليمة بل العكس. تكلّمتُ معه كثيرًا ووجدتُ أنّه لَم يفهَم طبعًا ما كان ينوي زياد فعله به، وكان ذلك أفضل نسبة لسنّه اليافِع. لكن في آخِر المطاف، إستوعَبَ ابني أنّ المُحاميّ أرادَه أن يكذب عليّ، وأنّ كلّ شيء يُعمَل في السرّ ليس جيّدًا، وإلّا لِما الكذب؟ وفهِمَ أنّ لا سبب لزياد أن يُهديه أيّ شيء خاصّة مِن دون عِلم أمّه.
أتلَفتُ الهاتِف أمام صغيري، وهو بكى قليلًا لكنّني حضنتُه وقبّلتُه، وأكّدتُ له أنّني أحبّه وأخوَته أكثر مِن أيّ أحَد في العالم، وهو وعدَني بألّا يُخفي شيئًا عنّي بعد ذلك.
غادَرَ زياد المبنى صباحًا واختفى. كان بودّي أن أشتكي عليه، لكنّني لَم أرِد أن تُحقِّق الشرطة مع ابني الصغير أو يشهَد في المحكمة ويُصاب بصدمة تُرافقه مدى الحياة. لكنّني أطلَعتُ جميع سكّان المبنى على نوايا زياد، وكنتُ أعلَم كَم يُحبّون الثرثرة فلا بدّ أنّ الخبَر انتشَرَ في كلّ مكان بسرعة هائلة.
مضى على هذه الحادثة خمس سنوات، إشترَيتُ خلالها هاتفًا لكلّ من أولادي، بعد أن وجدتُ عمَلًا أفضل وصارَ مدخولي أكبَر. ويا لَيتني أستطيع أن أجلِبَ لهم كلّ ما تطلبه نفسهم، وأُبعِدهم عن المُغريات كَي لا يقَعوا ضحيّة مُحتالين أو مريضين نفسيًّا!
حاورتها بولا جهشان