الندم الأبدي

أجلسُ اليوم، أسيرة لِذنب لا يُغتفَر، ذنب يُثقلني ولا يرحَمني للحظة. أجلسُ أتذكَّر ذلك اليوم الذي دمّرتُ فيه العالَم الذي بنَيتُه بعناية بسبب فترة ضعف قلَبَت حياتي رأسًا على عقَب.

كنتُ امرأة عاديّة وأمًّا لِولَد وحيد تزوّجَ وسافَرَ مع زوجته بعيدًا، ومتزوّجة مِن أحمد، رجُل طيّب القلب ومُخلِص إلى حدٍ لَم أكن أستحقُّه. كان يوفِّر لي كل ما أحتاجه، يحبُّني بصدق ويعاملُني كملِكة في بيته. لكنّني، في لحظة ضعف وأنانيّة، انجرَفت ُوراء حياةٍ أخرى مليئة بالخيانة والكذب.

تعرّفتُ على عشيقي بطريقة الصدفة وأعجبَني كلامه المعسول وقصَصه عن حياة مليئة بالمُغامرات. يا للفرق بين تجاربه وتجارب زوجي الهادئة! أحبَبتُ الصورة التي عكسَها ذلك الرجُل الغامِض ووعوده بمُشاركتي كلّ ما خاضَه، فرأيتُ بذلك فرصة لذوق ما كان ممنوعًا علَيّ. بدأ كلّ شيء بشكل بسيط، لقاءات سرّيّة هنا وهناك، رسائل حبّ لا تنتهي، وإحساس زائف بالحرّيّة. كنتُ أعلَم أنّ ما أفعلُه خطأ، بل مُدمِّر، لكنّني واصَلتُ، مدفوعة بشيءٍ غريب يُشبهُ الهروب مِن حياتي الهادئة. كنتُ بحاجة إلى الإثارة، أن أشعُر بأنّني لا أزال جذّابة وأُعجِبُ الرجال. كنتُ كالمُراهِقة التي تكتشِف الحياة وتقضُمها بشهيّة كبيرة! ولفترة كنتُ بالفعل سعيدة وبعيدة كلّ البُعد عمّا ينتظرُني، ولو عرفتُ إلى أين ستقودُني علاقتي السرّيّة، لَتراجَعتُ على الفور ونسيتُ تلك الأحلام الخطيرة. أظنُّ أنّني كنتُ وسط الفترة التي تُسمّى "أزمة مُنتصَف العُمر"، وأنا مُتأكِّدة مِن أنّها كانت ستنتهي مِن تلقاء نفسها... لو لَم يحصل الذي حصَل.

وأتى ذلك اليوم... فبينما كنتُ جالِسة في غرفة المعيشة، دخَلَ أحمد بهدوء غير مُعتاد حامِلًا ظرفًا في يَده. عندما نظرتُ إلى وجهه، رأيتُ عينَيه وقد ملأتهما دموع كبَتَها لوقت طويل. ومِن دون أن يتفوّه بكلمة، وضَعَ الظرف على الطاولة أمامي ورحَلَ إلى غرفة نومنا.

فتَحتُ الظرف، فإذ بي أرى صوَرًا ورسائل تُثبِت خيانتي. يا إلهي، كان أحمد قد اكتشفَ كلّ شيء! شعرَتُ وكأنّ الأرض تنهارُ تحت قدمَيّ ولَم أعُد قادِرة على التفكير أو التحليل، أو حتّى إيجاد كلمات تبرِّر ما قمتُ به. لحِقتُ بزوجي إلى غرفة النوم، لكنّني وجدتُ الباب مُقفلًا. حاولتُ فتحه، ثمّ بدأتُ أُنادي اسمه، لكنُّه لِم يجِب.

بعد لحظات طويلة مليئة بالقلَق والرعب، سمعتُ صوت طلقة ناريّة! صرختُ بأعلى صوتي ودفعتُ الباب بكلّ قوّتي حتّى انكسَرَ أخيرًا. رأيتُ أحمد مُلقىً على الأرض، وبجانبه مُسدّسه. الدّم كان يسيلُ مِن رقبته، لكنّه كان لا يزال يتنفّس. كان قد حاوَلَ انهاء حياته بإطلاق النار على نفسه، لكنَه أخطأ الهدف.

هرَعتُ إلى الهاتف واتّصلتُ بالإسعاف، وأثناء انتظار وصولهم واحتواء النزيف، لاحظتُ رسالة بجانبه. كانت مُبلّلة بِبقَع الدم، لكنّها بقيَت مقروءة. هو كتَبَ فيها:

"ليلى الحبيبة،

كنتُ أظنّ أنّنا شريكان في هذه الحياة، أنّنا نصفان لا يتجّزآن. كنُت أعيشُ لأجلِك، كنتُ أتنفّس مِن أجلكِ. كنتُ أرى في عينيكِ عالَمًا كامِلًا، عالَمًا كنتُ أرغَب في أن أكون جزءًا منه إلى الأبد. لكنّكِ، يا ليلى، خذَلتِني.

لَم أكن أتصوّر يومًا أنّكِ ستختارين الألَم والظلام على الحُبّ والوفاء. كنتُ أعتقِد أنّنا معًا سنواجِه كلّ الصعوبات، أنّنا سنحتضِن كل الفرَح والحزن حتّى آخِر أيّامنا. لكنّكِ، بدافعٍ لا أعرِفه، اختَرتِ طريقًا آخَر.

ألَم تشعري بقلبي يتحطّم قطعة قطعة؟ ألَم تشعري بالألَم الذي ملأ روحي؟ كنتُ أعتقِد أنّ الحبّ هو أكبَر قوّة في الكون، لكنّكِ أثبَتِّ لي العكس.

لا أستطيع أن أستمِرّ في العَيش مع هذا الوجَع، مع هذا الخراب الذي أحدثتِه في حياتنا. لذلك، قرَّرتُ أن أرحَل. سامحيني إن استطَعتِ، فأنا سامَحتُكِ. ولكن تذكّري أنّني كنتُ أحبُّكِ أكثر مِمّا أحبَبتُ نفسي.

مع الوداع الأبديّ، أحمد."

 

لَم يمُت أحمد، لكنّه فقَدَ القدرة على الحرَكة بشكل كامِل. باتَ مشلولًا، جالِسًا على كرسيّ متحرّك لبقيّة حياته... وكنتُ أنا السبب! وكلّ مرّة أنظُر فيها إلى عينَيه، أرى الألَم الذي سبَّبتُه له، والخيانة التي مزّقَته. هو لَم يطلُب الطلاق، ولَم يتحدَّث معي عن الأمر مُجدّدًا على الاطلاق. لكن كان واضحًا أنّه لَم يعُد نفس الشخص. جسَده القويّ والمليء بالحيويّة أصبَحَ مقيّدًا بِكرسيّ متحرّك. الرجل الذي حمَلَني بين ذراعَيه أصبَحَ الآن يعتمدُ على الآخَرين في أبسط الأمور.

فسَختُ بسرعة علاقتي بعشيقي الذي أسمَيتُه "حبيبي" حين كنتُ أذهب لمُلاقاته وقضاء لحظات شغَف مُثير. وحين هو علِمَ ما حدَثَ لزوجي ولماذا، إحتقرَني إلى أقصى درجة وكأنّ الأمر حدَثَ له شخصيًّا. أين كانت تلك المروءة حين كان يُقنعُني باللقاء به ويُساعدُني على إيجاد أعذار وأكاذيب للخروج مِن البيت؟ ألَم يقُل عن أحمد إنّه رجُل غبيّ لأنّه لا يُقدِّر مدى قيمتي الفعليّة، ولو كان مكانه لَتمسَّكَ بي وأعطاني ما تطلُبه نفسي؟ لَم أتصوَّر أن تكون ردّة فعله بهذه القساوة واستَوعَبتُ أنّني خرَبتُ حياتي وحياة زوجي مِن أجل سافِل لا يُريدُ سوى اشباع رغباته، وأنّني لَم أعنِ له شيئًا بالحقيقة.

أمّا بالنسبة لابننا، فهو لَم يعرِف السبب الحقيقيّ لِما فعلَه أبوه بنفسه. بل قلتُ له، كما قلتُ للجميع، إنّ أحمد كان غارِقًا بنوع حادٍّ مِن الكآبة حملَته إلى الوصول إلى الرغبة في الموت. أتى وزوجته فور معرفته بالحادث وخفتُ أن يفضحَني أحمد ويستوعِب وحيدي أنّ أمّه امرأة خائنة وشبه مُجرِمة، إلّا أنّ زوجي حفَظَ السرّ ومشى في كذبتي. لكن أحيانًا، أتمنّى لو أنّه أذاعَ للبشريّة كلّها خبَر خيانتي له، لأتحرَّر مِن السجن الذي وضعَني فيه أحمد مِن جرّاء صمته.

فكلّ يوم، يُراودُني ذكرى ما حصَل... أُعيدُ تجربة تلك اللحظة التي رأيتُه فيها ملقىً على الأرض، وجسَده بلا حراك، وروحه مكسورة والكلمات التي كتبَها لي. وينتابُني الشعور بالذنب، نارٌ لا تنطفئ في روحي أبدًا.

أقضي أيّامي في رعاية زوجي، محاوَلة باهِتة للتكفير عن خطيئتي. كلّ لمسة رقيقة، وكلّ كلمة رقيقة، هي نداء للمغفِرة. لكنّني أعلَم أنّ المغفِرة قد تكون رفاهيّة لا أستحقُّها. هو قالَ إنّه سامحَني حين اعتقَدَ أنّه سيموت ويرحَل إلى الأبد، لكنّه بقيَ حيَّا ولَم أعُد أبدًا واثِقة مِن غفرانه لي. فأعيشُ مع رجُل صامِت بالكاد ينظرُ إلَيّ وأشعُر بوحدة لا حدود لها وكأنّها بحر مِن دون قعر.

ومع مرور السنين، أتساءَل أحيانًا إن كانت هناك فرصة للخلاص. هل يمكنُني حقًّا أن أكَفِّر عن الألَم الذي سبَّبتُه؟ هل يمكنُني أن أجِد السلام الداخليّ، أم أنّني محكوم عليّ بالعَيش في ندَم أبديّ؟

لا تحكموا علَيّ، فلقد عانَيتُ وأُعاني كفاية، ووحده الله له الحقّ في مُحاسبَتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button