كانت سميرة جارتي وواكبتُ الأحداث عن قرب وباهتمام، لأنّ تلك المرأة أصبحَت لفترة قصيرة صديقتي لا بل الأخت التي لم تلِدها أمّي.
وصَلَت سميرة المبنى فور عودتها مِن شهر عسلها، لتسكن مع زوجها وأهله الذين كانوا كثراً: الأب والأم والإبن مع زوجته وأولاده والابنة مع زوجها وأولادها. كانوا قد قرّروا العيش سويًّا بسبب كبر الشقّة وحبّهم لبعضهم.
ولكنّ ذلك الحب لم يمتدّ إلى سميرة لأنّها كانت أجملهم وأفضلهم. ومِن اللحظة الأولى اعتبروها دخيلة عليهم ورفضوها كليًّا. كانت المسكينة قد طلَبت مِن خليل زوجها أن يسكنا وحدهما، ولكنّه تحجَّجَ بعدم قدرته ماديًّا على ذلك، خوفًا مِن غضب أهله عليه.
وهكذا بدأ جحيم سميرة التي حاولَت اثبات قدراتها كزوجة وككنّه وكسلفة ولكن مِن دون جدوى. فبالرّغم مِن معرفتها التامّة بفنون الطهو والخياطة والأعمال المنزليّة، لم يكن شيء مِن الذي تفعله كافياً، وكانوا يجدون دائمًا خطأً ما أو ثغرة صغيرة لادخال سمّهم إلى قلبها النقيّ.
وبالطبع سكتَت، أوّلاً لأنّها كانت عروسًا جديدة ولا تريد إحداث مشاكل فور وصولها، وثانيًا لأنّهم كانوا يفوقونها عددًا. أمّا خليل فلم يكن يعلم حينها بما يجري لأنّه كان يتواجد معظم الوقت في عمله.
أتذكّر أوّل لقاء لنا. كنتُ قد جئتُ أبارك للعروسَين وذهلتُ بجمال سميرة ورقّتها. ولكنّني لم أكن أعلم حينها أنّ تلك الصفات هي ذاتها التي ستودي بها إلى دوّامة مميتة. وجلسنا نتحدّث، ووجدنا أنّ هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا بدءًا بالسنّ ومرورًا بالهوايات وطريقة التفكير.
فعندما عرضتُ عليها أن تزورني دائمًا، أسرَعَت بالقبول وشعرتُ بانزعاجها مِن العيش وسط عائلة زوجها. ولم أعلم بالذي يدور في تلك الشقّة إلا لاحقًا عندما وثقت صديقتي بي وفتحَت لي قلبها.
ومرَّت الأشهر ولم تحمَل سميرة، الأمر الذي قد يبدو طبيعيًا عند معظم الناس، ولكن عند أهل خليل كان ذلك دلالة على عقم، الشيء غير المقبول بتاتًا عندهم.
وبدأت التلميحات البشعة والاستهزاء، واحتارَت سميرة وصلَّت أن يعطيها الله ولدًا وبأسرع وقت. ولكن مشيئة الخالق كانت أن تبقى سميرة مِن دون ذريّة لأسباب لن نعرفها أبدًا.
وأخَذَها خليل إلى طبيب نسائيّ، وخضَعَ وهي إلى تحاليل وفحوصات ولم يكن هناك أي خطب بهما فقرَّرا أن يتحلّيا بالصبر.
ولكن أهل زوجها بقيا مصرّين طبعًا على أن تكون المشكلة مِن سميرة ممّا زادَ مِن كرههم لها لِدرجة أنّهم منعوها مِن الاقتراب مِن أولادهم الصغار بحجّة أنّها ملعونة وقد تصيبهم بالعَين.
وكانت تأتي إليّ باكية ومستنجدة، وكنتُ أفعل ما بوسعي لمواساتها، خاصة بعدما أذاعوا الخبر بين سكّان المبنى والحيّ وبات الجميع يُخبّئ أولاده عنها.
فإلى جانب الاهانات والسخرية، لحقَ بها لَقَب "صاحبة العَين الفارغة"، الأمر الذي خَلَقَ لدَيها أحباطًا عميقًا.
وأخبَرَت أمّها أخيرًا بالذي تمرّ به، وحصَلَت منها على دعم تام ونصيحة بالصبر على أمل أن تتغيّر الأحوال.
ولكنّ سميرة لم تعد تتحمّل القهر اليوميّ وحيرة زوجها، لِما بدأ يسمعه مِن قِبلهم ودفعه إلى الزواج مِن امرأة أخرى "قادرة على أن تكون طبيعيّة"، فقرَّرَت صديقتي أن تبحث عن حلّ بنفسها.
علمتُ بالذي كانت تنوي فعله ومنعتُها عن ذلك طبعًا:
ـ ماذا يا سميرة؟ خبير أعشاب؟
ـ نعم... يُقال عنه إنّه الأفضل وإنّ الكثيرات أنجبنَ بعد تناول خلطته السحريّة.
ـ أنتِ شابة عصريّة وعليكِ التفكير بمنطق... قال لكِ الأطبّاء إنّ لا خطب فيكِ أي إنّ لا علاج لكِ.
ـ وما أدراهم؟ ذلك "العشّاب" يُمارس مهنتَه منذ سنوات طويلة واكتسَبَ شهرة كبيرة بفضل مهارته... سترَين! سأكون أمًّا بعد أقل مِن سنة!
ـ لا تخاطري بصحّتكِ أرجوكِ... أنتِ صديقتي وأختي... اصبري، وإن لم تحملي فاستمرّي بالضغط على خليل لينقلكِ إلى شقّة خاصة بكما.
ـ خليل؟ لا يستطيع العيش مِن دونهم... يعلم ما يجري ويسكت... وقد يتزوّج يومًا.
ـ خليل لن يفعل ذلك أبدًا! زوجكِ يُحبّكِ كثيرًا والكلّ يشهد بحبّه لكِ... أعلم أنّني لستُ مكانكِ وأنّ ما تمرّين به صعب جدًّا ولكن...
ـ إن لم يفلح العشّاب سأقبل بالأمر الواقع... أعدكِ بذلك.
وقبّلَتني ورحَلت إلى ذلك الدجّال الذي أعطاها خلطة، وأمرها أن تشرب منها مرّة في اليوم لمدّة شهر.
وفي اليوم التالي بدأت سميرة ما أسمَته "أوّل خطوة نحو خلاصها"، ولكنّها لم تكن تعلم بعد أنّ ذلك الخلاص سيكون سبب موتها.
فبعد يومَين فقط، سمعتُ صوت صفّارة سيّارة الاسعاف التي جاءَت لتنقل صديقتي إلى قسم الطوارئ. ركَضتُ لمعرفة ما يحدث ورأيتُهم يحملونها وهي فاقدة الوعي. ولم أتمالك نفسي عندما رأيتُ عائلة خليل متجمّعة في ردهة المبنى وصرختُ بهم: "حَصَلَ ذلك بسببكم! أيّها المجرمون!".
نظَرَ إليّ خليل بتعجّب وأسرَعتُ بإخباره عن الخلطة على أمل أن يُساعد ذلك الأطبّاء في انعاشها.
ولكنّ سميرة لم تستفق مِن الغيبوبة وبقيَت نائمة. وحين كنتُ أذهب لأراها يوميًّا وأكلّمها وأبكي على شبابها، كنتُ أجد خليل وأمّها إلى جانبها. جاء أهل خليل وسألتُ أم سميرة إن كانت ستسمح لهم برؤيتها بعد الذي فعلوه بها فأجابَتني: "ليس عليّ أنا محاسبتهم بل هناك أكبر منّي وسيتكفّل هو بذلك".
وبعد شهر على هذا النحو رحَلَت صديقتي إلى دنيا الحق. رحَلَت بعمر لم يتجاوز الـ 27 سنة. رحَلَت لأنّها سئمَت أن تكون محط اتهامات باطلة وكأنّها لا تنفع لشيء إن لم تنجب. رحَلَت ضحيّة مجتمع متخلّف أسير تقاليد بالية ومجرمة، فالمجرم الحقيقيّ ليس العشّاب بل هم كلّهم: أهل زوجها والجيران وأهل الحَيّ وخليل نفسه الذي سَمَح بأن تتعذَّب أمام عَينَيه بشكل يوميّ.
ولم يقطع خليل صلته بأهل سميرة. أخبَرَتني أمّها أنّه يزورها كلّ أسبوع بعد أن يمّر بقبر سميرة ويبكي عليه. وأضافَت أنّه جاء لها حاملاً مجوهرات المرحومة ليُسلّمها لها.
وبعد مرور سنوات على موت سميرة، لا يزال خليل أرملاً وكلّما التقَينا في المبنى وتبادلنا الكلام، يسألني عنها وأروي له عن حبّها له، فيبكي ويشكرني ويرحل.
ماذا جنى أهله مِن تحطيم زواجه سوى تحويله إلى انسان مدمَّر؟ أهكذا يُحبّ الأهل أولادهم؟ رأوه سعيدًا مع زوجته فلم يتحمّلوا المشهد، وعملوا جهدهم على كسر كلّ ذرّة سعادة بينه وبين التي أحبّها.
أسئلة كثيرة دارَت وتدور برأسي بعد الذي جرى لسميرة. أسئلة عن الناس ودوافعهم، عن المجتمع وقواعده وعن الحب... أحبَّت سميرة زوجها وهو أحبّها أيضًا، ولكن هل يكفي أن نحب أم أنّ علينا أن ندافع عمّن نحب ونقف بوجه الدّنيا كلّها مِن أجله؟
حاورتها بولا جهشان