كانت وداد جارتنا بالحيّ، وكان الجميع يسخر منها ومِن أمّها بسبب شكلهما وطريقة عيشهما، فقد كانتا منقطعتَين عن العالم الخارجيّ ولا تخرجان سوى لشراء حاجاتهما مِن الدكّان الذي يقع على بعد عشر دقائق. كنّا نراهما وهما تمشيان مع أكياسهما ونضحك كثيرًا. لماذا؟
لأنّ الأم كانت ترتدي سروالاً رجاليًّا وقبعة وحذاءً رجاليًّا أيضًا وتلبِس ابنتها مثلها.
لا أظنّ أنّ رأي الناس بهما كان يهمّهما كثيرًا، لأنّني لم ألاحظ على وجهَيهما أيّة علامة زعل أو غضب أو حتى خجَل عندما كان الصغار يقولون عنهما ضاحكين: "جاء السيّد مع ابنه!". صحيح أنّني كنتُ أشارك رفاقي تهكّمهم على المسكينتَين، ولكنّني لم أفعل ذلك بدافع التقليل مِن احترامي لهما بل لأبدو كسائر صبيان سنّي وحتى لا يقولوا عنّي إنّني "جبان" أو يسخروا منّي أنا الآخر.
لم يكن أحد يعرف ما الذي كان يدور في منزل وداد وأمّها، ولطالما اعتبَرتُ ذلك مِن أكبر الألغاز الموجودة في حياتي، لأنّني كنتُ متأكّدًا مِن أنّ هناك قصّة وراء ذلك الغموض. كنتُ أودّ اختراق جدران بيتهما واكتشاف طريقة حياة صاحبَتَيه وسببها، ولكن كان مِن غير الوارد أن أتصادق مع وداد، أوّلاً كي لا أصبح محط سخرية رفاقي، وثانيًا لأنّ الأم لم تكن لتسمح لي بذلك. وللحقيقة لم يرَ أي منّا أحدًا يزور وداد وأمّها، حتى أقاربهما، هذا لو وجدوا.
مرَّت السنوات وصِرتُ شابًّا وسيمًا وناجحًا، وكبرَت وداد أيضًا إلا أنّها بقِيَت تلبس وتتصرّف كالرجال. ولكن خلف هذا التنكّر الذكوريّ إستطَعتُ ملاحظة أنوثة تلك الصبيّة التي حيّرَتني لسنين.
ومِن دون أن أفهم السبب، بتُّ أفكّر بوداد ليلاً نهارًا حتى أدرَكتُ أخيرًا أنّني مُغرَم بها، وشعَرتُ بالخزيّ لأنّ قلبي خُطِفَ مِن قِبَل أبشَع وأغرب مخلوقة في حين كنتُ محاطًا بأجمل فتيات جامعتي.
مرّت السنوات وبدأتُ العمل في مكتب محاماة مشهور، ولأبعد عنّي فكرّة حبّ وداد، قرَّرتُ أن أخطب ريما، إبنة تاجر كبير وآية مِن الجمال. هكذا كنتُ سأنسى ولعًا كان يُضايقني.
بعد احتفال الخطوبة، شعَرَتُ بارتياح عظيم وخلتُ أنّني نسيتُ وداد ولغزها المحيّر، ولكنّ القدر كان يُخبّئ لي الكثير مِن المفاجآت.
كنتُ عائدًا مِن سهرة عند أصدقاء لي، وكنتُ أقود بسرعة فائقة ظانًّا أنّ لا أحد سيتواجد على الطريق في مثل هذه السّاعة المتأخّرة... حين ظهَرَت أمامي وداد. في البدء خلتُ أنّني أحلم، لِذا تأخّرتُ في استعمال الفرامل وصَدَمتُها بقوّة.
ترجَّلتُ مِن السيّارة كالمجنون، ورأيتُ المسكينة على الأرض فاقدة الوعي والدماء تغطي الأسفَلت. وضعتُها في المركبة وقدتُ بها إلى المشفى وأنا أردّد: "أرجوكِ لا تموتي! لا تموتي!"
وصَلنا قسم الطوارئ في الوقت المناسب، فلو تأخّرتُ قليلاً لفقَدتَ وداد دمها كلّه.
إنتظرتُ خارج غرفة الجراحة، بعد أن اتصَلتُ بأهلي وقلتُ لهم إنّني سأنام عند صديقي كي لا أشغل بالهم.
عندها خَرَجَت ممّرضة ومِن ثمّ الأخرى ووقفتا جنبي وقالتا بصوت خافِت الواحدة للأخرى:
ـ ما هذا؟ لم أرَ شيئًا مماثلاً في حياتي!
ـ الشعر يُغطّي جسمها... يا إلهي!
ـ وسمعتُ مِن قسم الطوارئ أنّ صدرها كان مزنّرًا ومشدودًا... المسكينة! بالكاد كانت قادرة على التنفّس!
ـ مَن فعَلَ بها ذلك، يا تُرى؟
مَن؟ كنتُ أملك الجواب طبعًا، لأنّها لم تكن تعيش سوى مع أمّها التي سيطَرَت على حياتها منذ ولادتها.
ما سمعتُه أثارَ حزني وليس اشمئزازي، وعادَ حبّي لوداد إلى رأسي وقلبي، وشعَرَتُ برغبة قويّة بحماية تلك الصبيّة. ولأقوم بذلك كان عليّ معرفة سبب تصرّفات أمّها.
وبما أنّ الزيارات كانت ممنوعة، تركتُ المشفى بعد أن ملأتُ استمارة تفيد بأنّني المسؤول الوحيد عمّا حصَلَ لوداد، وأنّني سأتكفّل بكامل المصاريف، وذلك بعد أن جاء شرطيّ وأخَذَ افادتي إلى حين تستفيق "الضحيّة" ويستمعون إلى أقوالها.
كان قد طلَعَ الصباح، لِذا عُدتُ إلى بيت أهلي، وعندما عرفوا بما حصَلَ بدأت أمّي تولوِل:
ـ يا إلهي! إن لم تمُت تلك الفتاة سيُجبرونكَ على الزواج منها! مِن تلك البشعة! إبنة المجنونة!
ـ ما هذا الكلام يا ماما؟ إدعي لها بالتحسّن! ما ذنب تلك المسكينة؟
ـ ماذا كانت تفعل ليلاً وسط الطريق؟ كان عليها البقاء في وكرها!
ـ بل كان عليّ القيادة ببطء! لا أريد سماع هذا الكلام مجدّدًا!
ـ ولماذا تدافع عنها هكذا؟
لم استطع الإجابة وفضَّلتُ النوم قليلاً قبل العودة إلى المشفى. لم آبه لمصاريف العلاج، لأنّني كنتُ مغطًّى بتأمين جيّد، ولم أخَف مِن السجن، فلو ماتَت وداد لن يهمّني شيء بعد ذلك.
نعم، كنتُ أحبّ وداد إلى أقصى درجة، وأخَذتُ أصلّي مِن كلّ قلبي كي يُبقيها الله على قيد الحياة.
أهمَلتُ خطيبتي وعمَلي مِن أجل البقاء في المشفى وانتظار موعد الزيارات ورحيل أم وداد إلى بيتها لترتاح. فتلك المرأة كانت قد رأتني هناك، وعلِمَت أنّني المسؤول عن حالة ابنتها وبدأت بشتمي عاليًا قائلة:
ـ كنتُ أعلم أنّ خراب ابنتي سيأتي على يد رجل! كنتُ أعلم ذلك!
وفي أحد الأيّام، حين كنتُ جالسًا في غرفة الانتظار على أمل أن يقول لي أحد إنّ وداد استفاقَت مِن غيبوبتها، جلسَت بالقرب منّي سيّدة مسنّة وبدأَت بالبكاء. أخرجتُ مِن جيبي محرمة وأعطَيتُها لها قائلاً:
ـ تفضّلي يا خالتي... مَن تبكين هكذا؟
ـ إبنة أختي... إسمها وداد ولقد دهَسَها مجنون!
لم أقل لها طبعًا إنّني المسؤول عن حالة إبنة أختها، كي لا أسمع الشتائم مِن جديد، ولكنّني رأيتُها فرصة لأعرف المزيد عن حبيبتي.
لِذا سألتُها:
ـ أجل... سمعتُ عن تلك الصبيّة المسكينة ورأيتُ أمّها... أين أبوها؟
ـ لا تسألني عنه أرجوكَ! هو السّبب!
ـ السّبب بماذا؟
ـ لا تخبر أحد، مفهوم؟ أختي لا تقبل أن نتكلّم عنه... كانت أختي امرأة ثرّية بعدما ورَثَت نصيبها مِن أهلنا رحمهما الله! وبدأ شاب يحوم حولها إلى أن قبِلَت الزواج منه مع أنّه لم يكن يملك سوى ثيابه. عاشَ مِن مالها، ووضَعَ يدَه على الثروة كلّها وتركَها وهي حامل بوداد. ومنذ ذلك اليوم، أقسمَت أختي أنّ لا يقترب رجل منها أو مِن ابنتها، وبدأت ترتدي زيًّا رجّاليًّا وتلبس وداد مثلها.
ـ ألم تحاولي إقناعها بأنّ ما تفعله ليس منطقيًّا؟
ـ بلى... قلتُ لها إنّ عليها رؤية طبيب نفسيّ، وعرضتُ عليها إعطاءها المال اللازم للجلسات، فأجابَتني أنّ الحلّ الأنسب هو قطع كلّ علاقة مع "الجنس السيّئ"، ولكنّها قطَعَت علاقتها معي أيضًا. كنتُ أزور الصّغيرة خفية، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما علمتُ منها أنّ أمّها تمنعُها مِن إظهار أيٍّ مِن محاسنها النسائيّة... كيف أقول لكَ كلّ ذلك...
ـ لا داعٍ يا خالتي... لا داعٍ.
بعد أيّام وفيما كنتُ في المشفى، رأيتُ حركة غير اعتياديّة حول غرفة وداد، وعلِمتُ مِن إحدى الممّرضات أنّ حبيبتي استفاقَت أخيرًا. ركَضتُ إلى الغرفة وإلى سريرها وهمَستُ لها بسرعة:
ـ هذا أنا، جاركِ... وأنا الذي دهسكِ عن غير قصد طبعًا... إسمعي، أنا أحبّكِ وسأخلّصكِ مِن عذابكِ مع أمّكِ... لا تقولي شيئًا الآن... سأعود.
وبدأتُ أزور وداد بعد رحيل أمّها ونتكلّم ونضحك سويًّا، ولكم كانت جميلة وهي تبتسم! سألتُها عمّا كانت تفعله على الطريق لوحدها في الليل، فأخبرَتني أنّها كانت تنتظر حتى تنام أمّها لتتمكّن مِن الخروج للسّير مِن دونها قليلاً، فذلك كان ممنوعًا عليها. ترَكتُ خطيبتي بعدما اعترَفتُ لها أنّ أخرى تسكن قلبي واتفقتُ مع وداد أن نهرب سويًّا قبل يوم مِن خروجها مِن المشفى. كانت وداد قد أسقطَت حقّها بما يخصّ الادّعاء عليّ، وكانت شركة التأمين تدفع كامل المصاريف. كلّ ما كان ينقص هو أن تتجرّأ حبيبتي على الرّحيل معي.
وعندما جاء الموعد المحدّد، كنتُ في حالة يُرثى لها. كنتُ قد استأجرتُ شقّة في المدينة وأخَذتُ موعدًا في المحكمة لعقد قراننا، ولكنّني لم أكن مرتاحًا لمجرى الأحداث.
دخَلتُ غرفة وداد ورأيتها مستلقية على السّرير بثياب المشفى. إمتلأت عينايَ بالدموع ،لأنّ حبيبتي لم تكن جاهزة كما اتّفقنا للهروب سويًّا. جلَستُ على الكرسيّ بجانبها وأمسَكتُ بيدها وقلتُ لها بحزن:
ـ هكذا إذًا... لن تأتي معي ولن نتزوّج ولن نعيش سويًّا حتى آخر أيّامنا.
ـ مَن قال لكَ ذلك؟
وقامَت وداد في ثانية مِن السرير، وخلَعَت ثوب المشفى مظهرة ثيابها المخبّأة تحتها. ضَحِكَت وقالت لي:
ـ ماذا تنتظر؟ هيّا بنا!
حاورتها بولا جهشان