ضاقَت الدنيا بنا بسبب الأحوال الإقتصاديّة التي ضربَت البلَد، ولَم نعُد قادرين على الإستمرار. لو كنتُ عزباء لَعرفتُ كيف أتدبّر أمري، لكنّني كنتُ مسؤولة عن زوجٍ وولدَين. فالحقيقة أنّني كنتُ المُعيلة الوحيدة لعائلتي، بعد أن وقَعَ عامر ضحيّة حادث ولَم يعُد قادرًا على القيام بِعمَله وواجباته كأب وزوج. إهتمَّيتُ به كما يجب مِن الناحيّة الجسديّة والمعنويّة، وأخفَيتُ عنه كَم أنّ وضعه أرخى بثقله عليّ مِن كلّ الجوانب. بكيتُ كثيرًا على ما آلَت إليه حياتي لكنّني جمَعتُ قوايَ للإستمرار. فلَم أكن يومًا إنسانة مُستسلِمة بل كافحَتُ منذ صِغَري لأنّ الحياة معركة لا تتوقّف.
إلا أنّني وجدتُ نفسي أمام حائط مسدود، فالعمَلان اللذان كنتُ أقومُ بهما لَم يعودا كافيَين للصّرف على البيت والأولاد ورجُل كسيح. دقَّيتُ باب الأقارب والأصدقاء لِطلب بعض المال، إلا أنّ وضعهم لَم يكن أفضل مِن وضعي. لِذا قرّرتُ بَيع ما أملكُه. وكنتُ قد أرجأتُ هذ الأمر، عالمةً تمام العِلم أنّ البَيع سيكون رصاصتي الأخيرة، فبعد ذلك، لن يعود لي حلّ آخر.
قصدتُ غرفتي وفتحتُ خزانتي وأخرجتُ منها "العلبة"، وفيها الخاتم الثمين الذي انتقَلَ مِن جيل لآخر لِيرسوَ بين يدَيّ. وهو بقيَ ينتقلُ مِن أمّ لإبنتها منذ ما أهداه جدّ جدّي لزوجته، وهو كانت أحواله أكثر مِن جيّدة بسبب تجارة الحرير التي كان يقومُ بها حين كان مُستقرًّا في الغربة. وقد جلبَه معه يوم عادَ إلى البلد بصورة دائمة كعربون حبّه الكبير لزوجته. ماتَ الرجل بعد فترة قصيرة، وصرَفَ أولاده ماله حتى لَم يتبقَ شيء. ومنذ ذلك الحين، غاصَت عائلتنا في الفقر. لكن لَم يبِع أحدٌ الخاتم وكنتُ أنا التي ستكسِر هذا التقليد، لكن ما عسايَ أفعل سوى ذلك؟ هل أتركُ عائلتي تموتُ جوعًا؟ فالإنسان أغلى مِن أيّ قطعة مجوهرات مهما كانت نادرة.
تذكّرتُ أنّ جارًا لنا كان قد حاوَلَ إقناع والدتي بِبَيعه الخاتم، وعرَضَ عليها آنذاك مبلغًا كبيرًا، إلا أنّها رفضَت وهو سافَرَ منذ سنوات طويلة ولَم نسمَع عنه منذ ذلك الحين. يا لَيتني أجِده وأعرضُ عليه ليس شراء الخاتم، بل إقراضي مبلغًا مِن المال أردُّه له لاحقًا وأسترجعُ منه الخاتم، هذا لو تسنّى لي ذلك طبعًا.
بدأتُ البحث عن جارنا القديم بالسؤال عنه في الحَيّ الذي سكنَه وعند أقاربه، إلى أن وجدتُه أخيرًا. كان جودَت يسكنُ البلد بعد أن عادَ مِن الغربة، وتزوّجَ وأنجبَ ويُديرُ شركة ناجحة. في كلمة، هو كان قادرًا على مُساعدتي. لكن هل كان سيقبَل بإقراضي المال مُقابل الخاتم؟ فهو كان يريدُه بصورة دائمة وليس مُقابل دَين. ولأعرفَ الجواب قصدتُه في مكتبه لأشرَحَ له وضعي المُلِحّ.
رحَّبَ بي جودَت بعد أن تذكّرَني، فكانت قد مضَت على لقائنا الأخير حوالي العشرين سنة. ثمّ استمَعَ الرجل إلى قصّتي، ورأيتُ بريقًا في عَينَيه حين أخرجتُ الخاتم ووضعتُه على مكتبه. كان مِن الواضح أنّه لَم ينسَه وأنّه لا يزال يُريدُه. كنتُ واضحة معه:
ـ أنا لا أُريدُ بَيعه بل أخذ المال مُقابله ريثما أُسدِّد هذا الدَين.
ـ وإن لَم تستطيعي ردّ المال؟
ـ سيصبحُ الخاتم لكَ.
ـ بعد كَم مِن الوقت؟
ـ لِنقُل سنة. أجل، سنة... أنا مُتأكّدة مِن أنّني قادرة على تسديد ما ستُعطيه لي خلال سنة.
ـ حسنًا... أنا موافق.
نظرتُ بِحزن إلى خاتمي العزيز وإلى أحجاره الملوّنة ذات البريق الأخّاذ، وأعطَيتُه لِجودَت وهو بِدوره أعطاني شيكًا كبيرًا. ثمّ وقّعنا على ورقة تذكرُ شروط اتفاقنا وشكرتُه ثمّ رحلتُ سعيدة. إتّجهتُ إلى المصرف لقبض المال، ومرَرتُ بالسوبر ماركت والصيدليّة ومحلات ملابس الأولاد وعدتُ إلى البيت فرِحة للغاية. سألَني عامر كيف تدبّرتُ أمر شراء كلّ تلك الأشياء فأخبرتُه بما فعلتُه. هو لَم يُسَرّ بالخبَر إلا أنّه بقيَ صامتًا، عالمًا تمام العلم أنّه الحلّ الوحيد.
عشنا بالراحة لفترة، لكنّني خسِرتُ أحَد عمَليَّ بعد أن أقفلَ المحلّ أبوابه، مِن دون أن أحصَل على أيّ تعويض، فعادَ الهمّ يسكنُ قلبي. كنتُ أعلَم أنّ المبلغ الذي إقترَضتُه سيتلاشى سريعًا، وأنّني لن أستطيع، إلا بِمعجزة، إسترجاع خاتمي الحبيب. حاوَلَ عامر مواساتي وتشجيعي، ولمَستُ بوضوح حزنه لِعجزه على مُساندتي. المسكين... ألا يكفيه وضعه؟
بحثتُ عن عمل لكن مِن دون جدوى، فبقيتُ في عملي الآخر الذي لَم يكن يدرّ عليّ سوى القليل. وصرفتُ القرض على مدارس ولدَيّ والبيت ومطالب زوجي المُعوَّق.
وحين انتهَت مُهلة السنة، كنتُ عاجزة عن إسترجاع أمانتي. لِذا قصدتُ جودَت مرّة أخرى آملةً أن يأخُذ ظروفي بِعَين الإعتبار ويُمهِلني سنة أخرى. إلا أنّه قالَ لي:
ـ لقد أصبَحَ الخاتم ملكي الآن.
ـ أعرفُ أنّكَ لطالما أرَدتَه، لكنّكَ رجُل مُقتدِر وبإمكانكَ شراء ما شئتَ مِن الخواتم.
ـ لكنّني أُريدُ هذا الخاتم بالذات.
ـ إنّه مُلك العائلة منذ أجيال، ولو لَم أكن بحاجة ماسّة إلى المال لمَا فكّرتُ أبدًا بسَحب قرضٍ عليه.
ـ أنتِ مُخطئة يا عزيزتي... هذا الخاتم ليس مُلك عائلتكِ بل عائلتي.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل... والآن أصبَحَ بِحوزتي أخيرًا، ولا توجَد قوّة على الأرض بإمكانها أخذه منّي.
ـ لا أفهَم سبب إصراركَ عليه أو ما قلتَه بشأن مُلكيّة عائلتكَ له. فمنذ صِغري...
ـ القصّة تعودُ إلى ما قبل ولادتكِ أو ولادتي... بل إلى أيّام جدّ جدّكِ.
ـ رحمه الله.
ـ رحمه الله؟!؟ أملُ بأن يكون ذلك اللصّ المُحتال يحترقُ بِنار جهّنم!
ـ ما هذا الكلام المؤذي! أنتَ حتى لا تعرفُه!
ـ بل عرفَته جدّة جدّتي! أجل... فذلك الخاتم كان مُلكها! سأروي لكِ ما حصَلَ آنذاك، ولا يعرفُ القصّة أحدٌ سوايَ، لأنّ الذين كانوا شهودًا عليه أصبحوا في دنيا الحقّ. فحين كان جِدّ جِدّكِ في الغربة، تعرَّفَ إلى فتاة جميلة وثريّة وهي أحبَّته مِن كلّ قلبها، غير عالمة أنّه كان مُتزوّجًا وله أولاد. لكنّه إدّعى العزوبيّة واستعداده للزواج منها. هو كان حتى ذلك الحين إنسانًا ذا دخَل محدود، ورأى بتلك الصبيّة المُتيّمة به فرصة للإغتناء. دخَلَ ذلك المُحتال بيت أجدادي، وأتحفَهم بقصَص خياليّة ومشاريع وهميّة وسلَبَ منهم مبالغ كبيرة. وهو لَم يكتفِ بذلك، بل أقنَعَ تلك الصبيّة بإعطائه الخاتم الجميل الذي لَم يكن يُبارحُ إصبعها، ليس فقط بسبب ثمنه وجماله، بل لأنّه كان يُمثِّلُ بالنسبة له ذروة وقمّة إحتياله على تلك العائلة.
أعطَته المسكينة الخاتم... وأعطَته أيضًا نفسها ظانةً أنّه سيتزوّجها قريبًا. إلا أنّه فرَّ مِن البلد وعادَ إلى عائلته مع المال والخاتم. وعندما أدركَت جدّة جدّتي أنّ عريسها نصّاب، غاصَت في كآبة كانت نهايتها الإنتحار. للحقيقة، لَم أقصدُ البحث عن الخاتم أبدًا، إلا أنّني رأيتُه مرّة في يَد أمّكِ وتعرّفتُ إليه بفضل لوحة لِصاحبته مُعلّقة في بيت جدّتي تظهَر فيه وهو في إصبعها. كنتُ أعرفُ القصّة منذ صغري وتأثّرتُ كثيرًا بالذي حصَل والذي يُعتبرُ عارًا علينا. ثمّ جئتِ إليّ بنفسكِ وكأنّ القدَر يقولُ لي:"لقد عادَ الخاتم أخيرًا إلى أصحابه". ولهذا السبب لن أُعطيكِ إيّاه مهما فعلتِ.
ـ وماذا لو كنتُ استطعتُ ردّ قرضكَ في الوقت المُحدَّد؟ هل كنتَ ستردّه لي؟
ـ كنتُ مُتأكّدًا مِن أنّكِ لن تقدري على ذلك... فمَن يرهُنُ قطعة مُجوهرات كهذه لا يستطيع سدّ دَينه. أنا رجُل أعمال وأعرفُ كلّ ما يتعلّق بأمور المال والمعيشة.
ـ آه... لو لَم أفقدُ عمَلي...
ـ كنتِ ستصرفين ما تجنيه على كلّ الأحوال، فالغلاء صارَ فاحشًا. إسمعي لستُ إنسانًا بغيضًا، لكنّ الخاتم هو مِن حقّي وأظنّ أنّكِ مِن رأيي.
ـ أجل... فلقد أحزنَتني تلك القصّة للغاية... لدَيّ إبنة ولا أستطيع تخيّل ما قد أفعلُه لو أنّ أحدًا سرقَ أغلى ما لدَيها ثمّ انتحرَت. فجدّ جدّي بنى تجارته على النصب والدماء... مالٌ حرامٌ... الآن أفهَم لماذا صِرنا فقراء.
ـ تمامًا، فمال الحرام يجلبُ التعاسة ولا يدوم. ولكن قَبل أن ترحلي، إسمحي لي...
وفتَحَ جودَت دفتَر شيكاته وحرَّرَ لي مبلغًا لا بأس به قائلاً:
ـ أنا إنسان نزيه ولا أبني سعادتي على تعاسة الآخرين. هذا تعويض بسيط. لا تحزني على الخاتم يا سيّدتي، فهو مُبلُّل بالدموع والدماء.
للحقيقة، كان الرجل على حقّ. بعد معرفتي بقصّة الخاتم، لَم أعُد أفكّرُ به وشعرتُ وكأنّني تخلّصتُ مِن قيود فُرِضَت عليّ.
لا أدري إن كان السّبب هو الشيك الذي أعطاه لي جودَت أم رحيل الخاتم عنّي، لكن سرعان ما تحسنَّت أحوالنا: وجدتُ عمَلاً بسرعة ونالَ ولَدايَ منحة مدرسيّة طويلة الأمد مِن قِبَل مؤسّسة خيريّة. هل كان الخاتم قد أثّرَ سلبًا على عائلتي وعليّ؟ هل لعَنَت إبنة هؤلاء الأغنياء كلّ مَن ستلبِسَه؟ بصراحة، لا أملكُ الجواب.
حاورتها بولا جهشان