أتذكَّر عندما كان هذا المبنى جديدًا، وواجهته اللامعة تعكُس طموحات سكّانه، وكلّ شقّة كانت لوحة لأحلام وآمال. إنتقُلتُ إلى هنا، شابّة مليئة بالحياة والحبّ وكان لدَيّ زوج، شريك مُحِبّ تقاسَمَ أحلامي. ملأنا شقّتنا الصغيرة بالضحك، وخُطى الأقدام الصغيرة ودفء الأسرة.
لكنّ الحياة، كما تفعَل غالبًا، كان لها خطَط أخرى... فسرقَت منّي زوجي، تاركةً إيّايَ وحدي مع صدى ضحكاته وثقل غيابه. ومع ذلك، صبِرتُ، وربَّيتُ أطفالنا، وغرَستُ فيهم القيَم التي كنّا نعتزّ بها. كبروا، ومدّوا أجنحتهم، وطاروا بعيدًا، تاركين لي بيتًا مليئًا بالذكريات.
الآن، في سنوات شيخوختي، أصبحَت هذه الشقة، التي كانت ذات يوم مركزًا صاخبًا للحياة العائلية، ملاذي الوحيد. إنّها أكثر مِن مجرّد جدران ونوافذ، إنّها جزء مِن روحي. الكرسيّ البالي، الستائر الباهِتة، رائحة الكتب القديمة المألوفة - كلّها الخيوط التي تؤلّف نسيج حياتي.
وذات يوم، إنتقَلَت عائلة مؤلّفة مِن والِدَين في مُنتصَف عمرهما وابنهما، إلى الشقّة المُقابِلة. في البداية، كانوا مهذّبين، وابتساماتهم مُشرِقة، لكن تحت تلك القشرة مِن الأدب، كانت هناك أجِندة مخفيّة. كانت أعيُنهم تتأمّل بابي في كثير مِن الأحيان، بحساب صامِت ورهيب.
مع الوقت، صارَ جيراني عبر الممرّ معروفين بتطفّلهم ووقاحتهم. الأب، أبو ماهر، كان رجُلًا مُتقاعِدًا يقضي معظم وقته في المقهى، بينما زوجته، أمّ ماهر، تتحكّم بكلّ صغيرة وكبيرة في البيت. وابنهما الوحيد، ماهر، شاب ثلاثينيّ يعمَل في شركة خاصّة، وعلى وشك الزواج. كان جميع مَن في المبنى يتفاداهم قدر المُستطاع لكثرة إزعاجهم.
لكن في الآوِنة الأخيرة، بدأَت أمّ ماهر تُضايقُني بشكل ملحوظ. في البداية، كنتُ أظنُّها مجرّد محاولات عاديّة للتقرّب منّي، لكنّ الأمر سرعان ما تحوّلَ إلى ضغط غير مُبرَّر. فذات يوم، طرقَت تلك المرأة بابي بحماس مُزعِج وقالَت لي بصوت عالٍ:
- يا خالتي، ألا تُفكّرين في الانتقال إلى مكان آخَر؟ هذه الشقّة كبيرة عليكِ وحدكِ، وماهر بحاجة إلى مكان ليبدأ حياته الزوجيّة!
نظرتُ إليها بدهشة وقلتُ بهدوء:
- هذه شقّتي، أمضَيتُ فيها معظم حياتي، ولن أترُكها.
تغيّرَت ملامحها فجأة، وتحوَّلت ابتسامتها المُصطنعة إلى نظرة بارِدة:
- فكّري في الأمر... لا أحَد يُريد أن يعيشَ وحده طوال حياته... إذهبي إلى دار للعجزة حيث ستجدين رفقة مُناسِبة لكِ.
لَم أُجِبها، لكن كلماتها تركَت أثرًا في نفسي.
ثمّ بدأَت الأحداث الغريبة: مرّة وجدتُ رسالة مجهولة تحت بابي تُشير إلى أنّ المبنى بحاجة إلى ترميم، وأنّ عليّ الانتقال. ومرّة أخرى، إكتشفتُ أنّ الكهرباء قُطِعَت عن شقّتي مِن دون سبَب واضح. وعندما استفسَرتُ مِن الحارِس، بدا ُمتردِّدًا لكنّه أشارَ إلى أنّ جيراني ربّما لهم يَد في الأمر. إلّا أنّ الأمور لَم تتوقّف عند هذا الحدّ، فبدأ ماهر يتعمَّد تشغيل الموسيقى بصوت عالٍ ليلًا، وكأنّه يُريد دفعي لترك الشقة بأيّ وسيلة. ومع ذلك، كنتُ أتحمَّل، فأنا لا أملكُ مكانًا آخَر أذهب إليه، وشقّتي هي تاريخي وحياتي. كان طبعًا بإمكاني تلبية طلَب أولادي بالسفَر إليهم والعَيش معهم، لكنّني رفضتُ أن أُلقيَ بثقلي على الآخَرين. لَم أُطلِعهم على ما يحدث لي مع جيراني كَي لا أُقلِقهم، معتقَدةً أنّني قادِرة على التعامل لوحدي مع هكذا أشخاص.
إلّا أنّني شعرتُ حقًّا بأنّ هناك خطة تُحاك ضدّي، ولَم أعرِف مدى استعداد جيراني للمضيّ بِحَملي على تَرك المكان.
وفي إحدى الليالي، وبينما كنتُ جالِسة على كرسيّ المُفضّل أقرأ كتابًا قديمًا، سمعتُ صوت طرقات عالية على الباب. فتحتُ الباب لأجِد أم ماهر ومعها رجُل غريب يَدّعي أنّه سمسار عقارات.
قالت لي جارتي بابتسامة زائفة: "هذا الرجُل يُريد شراء شقّتك بسعر مُمتاز. إنّها فرصة ذهبيّة يا خالتي!"
نظرتُ إلى الرجُل ثمّ إليها وقلتُ بِحَزم: "هذه الشقّة ليست للبيع. أرجو ألّا تزعجوني مرّة أخرى!".
وذات صباح، وجدتُ رسائل تهديد مكتوبة بخط سيّئ تُرِكَت عند بابي. كانت تحمِل عبارات مثل: "لن تنعَمي بالراحة هنا" و"الأفضل أن ترحَلي قَبل أن تندَمي"، أو حتّى "ألَن تموتي وترحَلي؟؟؟". شعرتُ بالخوف، لكنّني قرّرتُ عدَم الاستسلام، فذهبتُ إلى الشرطة وقدّمتُ بلاغًا، لكنّهم تجاهلوا مخاوفي وقالوا لي إنّ الأدلّة غير كافية لاتّخاذ إجراء. يبدو أنّ القانون، مثل الجيران، كان مُتحيّزًا ضدّ امرأة عجوز.
بعد عودتي مِن القسم، بدأتُ أشعر بوحدة كبيرة، لكن في الوقت ذاته، كنتُ أزدادُ إصرارًا على البقاء في منزلي. لذا صمَّمتُ أن أواجِه أم ماهر مُباشرة. طرقتُ بابهم بقوة، وعندما فتحَت لي، قلتُ لها بلهجة صارِمة: "أعلَم أنّكم تحاولون إجباري على الرحيل. لن أترك شقّتي مهما فعلتم!".
ضحِكَت المرأة بِخبث وقالَت: "يا خالتي، لا تكوني عنيدة، هذا المكان لم يعد يُناسبكِ... إرحَلي قَبل أن تقَع مُصيبة كبيرة... إبني شابّ والحياة أمامه، أمّا أنتِ... فأنتِ عجوز وأيّامكِ معدودة... كَمّ أنّكِ أنانيّة!
لَم أُجِبها، وعدتُ إلى شقّتي وأنا أعدُّ العدّة للخطوة التالية. بدأتُ أتحدّث مع الجيران الآخَرين عمّا يحدث، فحتّى ذلك الحين أبقَيتُ تلك الأمور لنفسي، مُعتقدةً أنّني قادِرة على المواجهة بنفسي. بعضهم تضامَنَ معي، والبعض الآخَر كان يَخشى التدخّل. لكن وجود أشخاص يدعموني أعطاني شعورًا بالقوّة.
وفي إحدى الليالي، سمعتُ ضجيجًا في المَمرّ. فتحتُ الباب لأجِد ماهر يُحاول كَسر قفل شقّتي بحجّة أنّه ظنَّ أنّني بحاجة إلى مُساعدة بسبب وعكة صحّيّة، وأرادَ نَقلي إلى المشفى. صرختُ بأعلى صوتي، فجاءَ بعض الجيران والحارِس ليشهدوا على ما يحدُث، لكنّه أقنعَهم بعذره، وأثنى البعض على ما فعلَه. لكنّ الحارِس نصحَني بتغيير الأقفال ووضع تلك التي يصعَب كسرها. هو كان يعرفُ أنّ هؤلاء القوم يُريدون أذيّتي، وأبقى عَينَه عليَّ. ولولا ذلك الرجُل الطيّب، أظنُّ أنّني كنتُ اليوم في عِداد الأموات.
أجل، كنتُ لأموت! فبَعد أيّام قليلة، وأنا عائدة مِن السوق ودخَلتُ ردهة المبنى، شعَرتُ وكأنّ أحَدًا واقِف ورائي. إستدَرتُ، وإذ بي أرى ماهِر وبِيَده عصًا وفي عَينَيه نظرة شرّ جمَّدَت الدمّ في عروقي. ثمّ هو صرَخَ بي: "موتي أيّتها العجوز اللعينة! موتي!!!
لكنّ يَدًا مُبارَكة أمسكَت بذراعه قَبل أن يتسنّى له ضرب رأسي بالعصا، ورأيتُ ماهِر مُلقىً على الأرض والحارِس يُبرِحه ضربًا وهو يقولُ له: "يا أيّها الجبان! تستقوي على سيّدة عجوز؟؟؟ أرِني قوّتكَ الآن!".
طُلِبَت الشرطة على الفور، ومع شهادة الحارِس والإدانة مِن الجيران، أُلقِيَ ماهِر في السجن. أسقطُُّ حقّي شرط أن تتراجَع أم ماهِر وزوجها عن مضايَقتي وأن يرحَلا مِن المبنى إلى غير رجعة! وبعد فترة، خرَجَ ماهِر مِن السجن ولَم أسمَع منه أو مِن والِدَيه أبدًا.
اليوم، أعيشُ في شقّتي بسلام، لكن تلك التجربة علّمَتني الكثير عن الصمود ومواجهة الظُلم. لقد تجاوزتُ العاصفة، وخرجتُ أقوى، وأثبتُّ أنَه حتّى في آخِر العُمر، يُمكن للإنسان أن ينتصِر على المِحَن.
وكلّما أتى أولادي مع عائلتهم مِن الخارج، يطلبون منّي أن أروي لأطفالهم قصّة "الجدّة البطَلة"!
حاورتها بولا جهشان