"آنسة سناء، عليكِ البقاء في المكتب الليلة، لم ننتهِ مِن ملفّ شركة س."
مِن نبرة صوت مديري علِمتُ أنّه اتخّذَ قراره وأنّ لا شيء سيغيّر رأيه. وتفرّجتُ بِحزن على زملائي وهم على وشك الخروج مِن الشركة قاصدين منازلهم لأنّني كنتُ أعلم ما سيفعله مديري عندما نصبح لِوحدنا: سيبدأ بإعطائي تعليمات عن الرسائل التي عليّ كتابتها ومِن ثم سيتقرب منّي وستنبعِث منه رائحة فمه النتِنة وعرقه البارد. في المرّة الفائتة أخذَ يداعب شعري وانتابَتني رغبة قويّة في التقّيؤ. وعندما أزحتُ رأسي ضحِكَ ونظَرَ اليّ كالهّر الذي مسَكَ بفأر ويلهو معه متأكّدًا أنّه سيقضي عليه لاحقًا.
ومنذ ذلك النهار وبسبب نظراته لي ورائحة عطره علِمتُ أنّه سيبقيني وأنّه أخذَ قراره بانهاء اللعبة لصالحه. فكان قد تعِبَ مِن تهرّبي الذي دامَ ثلاثة أشهر أي مِن أول يوم وصلتُ الشركة.
في البدء كانت الملاحظات على حسن مظهري أو الغمزات أو يده على كتفي كلما مرّ مِن قربي ومِن ثم الاستدعاءات الى مكتبه طوال النهار لأسباب تافهة فقط ليحاول افهامي وبألفاظ مزعجة أنّه مُعجب بي. وصَلَ حتى الأمر به الى أن يطلب منّي ارتداء ثيابًا أكثر إثارة "لتحسين صورة الشركة".
وفي احدى الليالي اتصل بي متحجّجًا بأمر متعلّق بالعمل وبدأ يمازحني ويلاطفني ويسألني عن لون شراشف سريري. بالطبع أنهَيتُ الحديث مدركة أنّني لن أتخلّص منه بِسهولة. أمّا زميلاتي فكانت قد فرحِت بِقدومي الذي ألهى المدير عنهنّ.
وسكتُّ عن كل ذلك بسبب حالتي الماديّة ومرَض أمّي. كانت المسكينة تحتاج الى أدوية باهظة الثمن ولم أجد سوى هذا العمل بسبب رداءة سوق العمل في البلد. الى جانب ذلك لم أكن أملك سوى شهادة سكريتيرة بعد أن أهملتُ تكميل دراستي الجامعيّة.
ولكنّ كرامتي كانت على المحكّ وبعد أن أخذتُ نفسًا عميقًا وقبل أن تغادر آخر زميلة المكتب دخلتُ على المدير وقلتُ له وأنا أنظر مباشرة في عَينَيه:
ـ أنا متأسّفة استاذ عادل ولكنّني لن أبقى الليلة.
نظَرَ اليّ باندهاش وكأنّ الأمر لا يمكنه أن يحصل وأجابَني بِصوت ودود:
ـ ولِما لا يا آنسة سناء؟
قاومتُ رغبتي في اطلاعه عن اشمئزازي لِشخصه وقلتُ له بِنبرة جازمة:
ـ لأنّ دوامي ينتهي في الساعة الخامسة مثل باقي الموظّفات... وإن كنتَ تريد انهاء هذا الملف في الوقت المحدَّد يمكنني الاستغناء عن استراحة الظهيرة والعمل معكَ غدًا... وإن كان الأمر لا يتحمّل الانتظار أفضّل أن تختار موظّفة أخرى.
ولِشدة استياءه لِما قلتُه أصدرَ عادل صوتًا غريبًا يشبه صوت الخنزير. وصَرَخَ:
ـ تصرّفكِ هذا لن يكون لِصالحكِ... أعدكِ بذلك!
وأخذَ حقيبة أوراقه بِغضب وخرَجَ مِن الشركة.
وبقيتُ لِوحدي ألتقط أنفاسي احاول السيطرة على رجفان ركَبي وجلستُ لِبضعة دقائق غير قادرة على المشي. وسألتُ نفسي طبعًا عمّا قصدَه بالذي كان يشبه التهديد المباشر.
ولم أنتظر كثيرًا ففي صباح اليوم التالي وفور وصولي الى العمل بدأت الملاحظات عن عملي. وقَفَ المدير وسط الصالة وبدأ يصرخ:
ـ إداؤكِ، يا آنسة سناء، ليس بالمستوى المطلوب.
ونَظَرَ الجميع اليّ منتظرًا منّي ردّة فعل ولكنّني لم أجاوب بل تابعتُ عملي. وبعد اقل مِن ساعة عاد عادل يقول:
ـ أنتِ بطيئة وقليلة التركيز... لا أظنّ أنّكِ تأخذين واجباتكِ على محمل الجَد.
وقبل انتهاء الدوام وقَفَ مديري أمام مكتبي وصَرَخ كي يسمعه الجميع:
ـ سأضطر للتخلّي عنكِ... لا تزالين في الفترة التجريبيّة ولم لست ممنونًا مِنكِ... لا تنسي أن تمرّي بِقسم المحاسبة قبل ان تغادري. الوداع!
وامتلأت عيوني بالدموع وسط صمت زميلاتي فلم أتصوّر أن يطردني بل تخيّلتُ أنّه سيكون جافًّا معي وليس أكثر. وسألتُ نفسي إن كان مِن الأفضل أن أبقى بعد الدوام كما طلَبَ منّي وأن أتحمّل تحرّشاته. فكيف كنتُ سأشتري الدواء لأمّي؟ وللحظة خطَرَ على بالي أن أركض الى مكتبه وأن أترجّاه لإبقائي. ولكن فكرة الخضوع لهذا الانتهازيّ طغَت على الأولى. فلم يكن يحق لهذا المدير أن يستغلّ موقعه وحالتي الاجتماعيّة لِمصلحته. ولم يكن عادل يتصوّر أنّ فتاة في حالتي سترفض الانصياع الى رغباته وأنّني أفضّل أن أموت مِن الجوع على بَيع نفسي.
وعندما عادَ المدير الى مكتبه التمَّت زميلاتي حولي لِمعرفة التفاصيل وأخبَرتني أنهنّ مررَنَ بنفس التجربة ولكنّهنّ فضَّلنَ البقاء رغم الذِل والاستغلال.
وودّعتهنّ وتوّجّهتُ الى مكتب المحاسبة لأخذ الشيك قبل أن أترك المكان نهائيًّا. ولكنّني غيّرتُ فكري بعد أن أدركتُ أنّني لن أستطيع أن أطال عادل قضائيًا لِعدم وجود أدّلة ضدّه ولِعدَم قدرتي على الاتكال على شهادَة زميلاتي ناهيك عن مجتمعنا الذكوري الذي سيقف الى جانب ذلك المدير عندما يتهمني بمحاولة إغرائه.
لِذا قرّرتُ أن أمرّ مرّة أخيرة الى مكتب المدير. ودخلتُ دون أن أقرَع بابه. لحِقَت بي زميلاتي لِتتفرّج على الذي سيحصل.
وتفاجأَ عادل برؤيتي واقفة أمامه وخال أنّني جئتُ أبكي له وأرجوه أن يعيدني الى العمل. وارتسمَت بسمة الانتصار على وجهه وقال:
ـ أرى أنّكِ عُدتِ الى صوابكِ... اذهبي الى الباب واقفليه.
ـ لن أقفل الباب... أريد أن يسمع الجميع ما سأقوله لكَ والذي تفكّر به أيضًا زميلاتي... سأتكلّم بِصوت كل امرأة وجَدَت نفسها مكاني أي مُحَيَّرة بين الانصياع لطلبات رئيسها وبين فقدان مورد رزقها وسنين مِن العمل الدؤوب... أنا سعيدة أنّكَ طرَدتَني لأنّني لم أعد مجبورة على تحمّل نظراتكَ الوسخة وتلميحاتكَ المهينة... لن أشعر بعد الآن بالاشمئزاز حين تلمسني ولن أضطرّ للإجابة على أسئلتكَ الشاذّة... واعلم أنّ بالرغم مِن مالك وشركتكَ وعملائكَ لن تكون يومًا رجلاً محترمًا... فالاحترام لا يُشتَرى بل يُكتسَب... ولا أحد هنا يحترمكَ أو يحبّكَ حتى... أنتَ رجل مكروه وسط شركتكَ ولن يتردّد أحد أن يفرح لِمآسيكَ... وبدل أن تكون المدير العادل وتحمل اسمكَ بِشرَف ها أنتَ تستغل منصبكَ للتحكّم بِمصير الناس... تكافِئ موظّفاتكَ حسب طول تنّورتهنّ وليس حسب قدراتهنّ ... يا للعار... تستمدّ قوّتكَ مِن ضعف الناس ما يجعل منكَ انسانًا جبانًا وانتهازيًّا... وهذه هي الصورة التي ستراها عندما تنظر في المرّة المقبلة إلى نفسكَ في المرآة.
وقبل أن أدير له ظهري وأخرج أضفتُ:
ـ أحتقركَ.
وخرجتُ وسط تصفيق زميلاتي.
وفي طريق العودة الى المنزل سكَنَني شعور بالارتياح والاكتفاء لم أعرفه مِن قبل. وأدركتُ أنّني أصبحتُ امرأة أخرى، امرأة قويّة وأنّني لن أتأخّر على ايجاد عملاً جديدًا. وهذا ما حَدَث. فبعد أقل مِن أسبوعَين وجدتُ وظيفة في شركة أخرى.
في البدء خفتُ أن تتكرّر الأمور معي ولكن ذلك لم يحصل بِسبب ثقتي الجديدة بِنفسي وعزمي ألاّ أدَع أحدًا يستغلّني. أظنّ أنّ مديري الجديد أدركَ أنّ الفتاة الواقفة أمامه هي مِن الصنف الصعب. عَلِمَ أنّني آتية للعمل فقط وأنّني لن أرحَم كل مَن بِنّيته أن يستغلّني.
حاورتها بولا جهشان