كان إبني فرحتي الوحيدة بعدما قضينا أنا وزوجي سنوات طويلة نتنقّل مِن طبيب إلى آخر بسبب شبه عقم زوجي. فقد كان لدى سامي مشكلة تمنعه مِن الإنجاب وكذلك أخوه. وكان الأمر متعلّق بمشكلة عضويّة تؤثّر مباشرة في القدرة على الإنجاب.
ولم يكن أخ زوجي حامد محظوظاً مثلنا، وبقيَ بلا ذريّة وأسِفنا كثيرًا عليه وعلى زوجته، خاصّة عندما جاءا لرؤية إبني فريد في المشفى. كانت الخيبة واضحة على وجهَيهما، وتمنَّيت لهما أن يجدا العلاج المناسب بأقرب وقت.
ولكنّ حالة حامد كانت وضعاً ميؤوساً منه، فقرّرنا أنا وسامي أن نشاركهما قدر المستطاع أوقاتنا العائليّة.
وهذا ما حصل، فبدأنا نقضي معظم فرص نهاية الأسبوع والأعياد معًا، وكان فريد محطّ أنظار وانتباه الجميع. الجدير بالذكر أنّ ابني كان وسيمًا للغاية، ويتمتّع بالقدرة على تحبيب نفسه مِن كل مَن يراه.
ومرّت بضع سنوات على هذا النحو، ولم يخطر ببالي أبدًا أو ببال سامي أنّ حامد وزوجته صارا يكرهاننا إلى أقصى درجة لأنّنا استطعنا إنجاب ولد وهما لا. ولكن لكثرة مكرهما، عملا جهدهما على إخفاء حقدهما بالمجاملات والإبتسامات واللفتات الجميلة.
إلا أنّ حظّ سامي إقتصَرَ فقط على مجيء إبننا، فكانت أعماله تتراجع يوماً بعد يوم، وكنتُ أقول لزوجي: "الله لن يُعطينا كلّ شيء... يكفينا فريد".
ولكن كان لا بدّ أن يأتي لنا سامي بالمال اللازم للعيش بكرامة، ولتأمين مستقبل وحيدنا، وبدأ الهمّ يحلّ مكان الفرح، وسرعان ما أمسى زوجي ضيّق الخلق، يقضي نهاره وليله محاولاً إيجاد الحل.
ورأيتُ عائلتي تغرق في الهمّ، ولم يكن بمقدوري أن أفعل شيئًا خاصة أنّني لم أعمل يومًا بالرّغم مِن حصولي على شهادة جامعيّة. ولم تكن حالة حامد أفضل بكثير، ولكنّه وجَدَ لنا طريقة للخروج مِن مأزقنا: السّفر بعد أن اتّصلَ بأحد أصدقائه الذي يملك شركة في الخارج وأقنَعَه بأخذ سامي للعمل لديه.
وتشاورنا أنا وزوجي مطوّلا بالموضوع، فلم يكن مِن السّهل عليه تركنا وترك أخيه والبلد. وشجّعتُه على السّفر، آملة أن يستعيد ثقته بنفسه ويعود الرجل الذي عرفتُه. وهكذا، ودّعَنا سامي والدّمع يملأ عَينَيه، وأوصى حامد بنا وركب الطائرة إلى دولة الإمارات المتّحدة.
وما ساعَدَني على تحمّل فراق زوجي، كان أملي بأن تصطلح الأوضاع وأن يعود إلينا بأقرب فرصة أو عيد.
وفي تلك الأثناء، لم يتركنا حامد أو زوجته، بل عملا جهدهما على ترفيهنا ومواساتنا.
وبعد شهرَين، إستطاع سامي المجيء لبضعة أيّام لن أستطيع وصف فرحتي بها. فلم يُفرّق شيء بيننا مِن قبل، وكان زوجي بالفعل هو حبّ حياتي والرّجل الوحيد الذي أفكّر فيه. وعاد سامي إلى الإمارات المتّحدة واعدًا طبعًا بالرّجوع في أقرب فرصة.
ومرَّت الأشهر وعادَ مرّة أخرى، لكنّني وجدتُه تعبًا وشاحبًا. أكّدَ لي أنّه بخير، إلا أنّني لم أطمئنّ لما رأته عيناي. وقبل رحيله، جعلتُه يُقسم لي بأن يهتمّ بصحّته جيّدًا لأنّني وإبني نحبّه كثيرًا وليس لدَينا سواه.
وبعد يوم مِن وصوله إلى العمل، إتصل بي زوجي ليُخبرني بأنّه دخل المشفى بعد أن أصيب بوعكة صحيّة. شرَحَ لي أنّه يعاني مِن حرارة مرتفعة ومن ألم في عنقه، وأنّه على الأرجح مصاب بالأنفلونزا وأنّ عليّ عدم الخوف فذلك يحصل لأيّ كان وفي أيّ مكان.
ولكنّ وضعه كان أصعب مِن ذلك بكثير! فتلك العوارض كانت في الحقيقة تشير إلى مرض خطير، وهو التهاب السّحايا الذي يُصيب الدّماغ، خاصّة إن كان سببه باكتيريا كما في حال زوجي. وساءَت حالته بسرعة، واتصلوا بي من المشفى وطالبوا بوجودي إلى جانب سامي بعدما استحال تسفيره إلى البلد.
وركضتُ أطلب تأشيرة مستعجلة، وبواسطة التقارير الطبيّة التي أُرسَلِت إليّ، إستطعتُ أخيرًا اللحاق بسامي. كنتُ كالمجنونة بعدما بحثتُ عن هذا المرض على الإنترنت ووجدتُ أنّه مميت في بعض الأحيان.
وقبل سفري، قصدتُ حامد وزوجته لأطلب منهما الإهتمام بفريد أثناء غيابي لأنّه كان معتاداً عليهما. وبالطبع قبلا وقبل أن يأخذا إبني زوّدتهما بالتعليمات اللازمة لرعاية ولد في الرابعة مِن عمره. حزمتُ حقيبة صغيرة وطرتُ إلى زوجي. هناك وجدتُه في حال يُرثى لها، وقال لي الأطبّاء إنّهم يفعلون ما بوسعهم لإنقاذه.
سكنتُ في شقّة مفروشة قريبة مِن المشفى حيث كنتُ أقضي وقتي. وبالطبع بقيتُ على اتصال دائم بالبلد لأتتبّع أخبار إبني الوحيد. وكان حامد يُطمئنُني باستمرار ويُعطي الهاتف لفريد حتى أسمع صوته وأخبره أنّ أباه بخير وأنّنا عائدان بعد فترة قصيرة.
ولكن بعد أيّام قليلة، لم يعد أخ زوجي يُجيب على مكالماتي ولا حتى زوجته. حاولتُ الإتصال بهاتف المنزل ولكنّ النتيجة كانت نفسها. خفتُ أن يكون قد حصل مكروه لأحدهما، أو لا سمح الله لفريد، وشعرتُ بوحدة عميقة. فقد كان زوجي يُصارع الموت ولا خبرعن إبني، وأنا في وسط هذه المعمعة.
مرّ يوم والثاني ومِن ثمّ الثالث، فاتصلتُ بأخي وطلبتُ منه أن يذهب بسرعة إلى منزل حامد ليرى ما يحصل هناك.
في اليوم التالي، وبعد أن قطَعَ مسافة كبيرة، إتصل بي أخي ليقول لي إنّه قصَدَ المنزل فوجده مقفلاً. وبعد أن سأل الجيران عن سكّانه، قيل له إنّهم غادروا مع حقائبهم.
في البدء لم أفهم ما حصل. فلماذا يُسافر حامد وزوجته مع إبني بدون إعلامي؟ ومِن ثمّ استوعَبتُ أنهم هربوا ولكن إلى أين؟ إلى أين؟؟؟ عاودتُ الإتصال بِحامد على جوّاله، ولكنّه كان مقفلاً ممّا يعني أنّه حقًا لا يُريد أن أكلّمه.
وأخَذَ أخي يبحث عنه في كلّ مكان إلى أن وجَدَ سائق الأجرة الذي أخَذَهم... إلى المطار. يا إلهي! سافرا بعيدًا مع وحيدي! كان حامد قد إغتنم فرصة وجودي مع أخيه المريض ليخطف إبني.
ومِن حيث أنا، وبحالتي المأساويّة، أوكلتُ أخي بأن يقصد الشرطة ويُبلّغ عن عمليّة الخطف والخاطفَين. وبينما أنا في مشفى بلد غريب إلى جانب زوج على شفير الموت، بدأت أدير العمليّات. وبين الحين والحين، عندما كان سامي يستطيع التكلّم، كان يسألني عن فريد وكنتُ أقول له: "لا تخف، حبيبي... حامد وزوجته يهتمّان به وكأنّه إبنهما". ولكنّني كنتُ أتمزّق مِن الداخل لفكرة وجود إبننا في مكان مجهول. لم أخَف على فريد مِن حامد أو زوجته، فكنتُ أعلم مدى تعلقّهما به وكنتُ واثقة من أنّهما يهتمّان به جيّدًا، ولكنّ فكرة أنّني قد لا أراه مجدّدًا كانت تقتلني. آه لو لم يُسافر سامي... ولو لم يمرض! يا ليتَني قادرة على العودة إلى الوراء...
وأملَيتُ على أخي أن يطلب مِن الشرطة التقصّي عن وجهة سفر حامد، فعلِموا أنّه قصَدَ فرنسا.
وذات ليلة وأنا نائمة على كرسي غرفة الإنتظار، جاءَني حلم غريب: كان حامد يُجلس فريد على رجلَيه ويقصّ عليه ذكريات الطفولة، وكان إبني يبكي. وقال له عمّه:"لا تبكِ، يا حبيبي... سآخذكَ في الغد إلى بيت زوجتي... وستمرح مع أولاده".
واستفَقتُ مذعورة، فقد تذكّرتُ في الحلم أنّ لزوجة حامد إبن عمّ في فرنسا. لم أتعرّف يومًا إلى الرّجل ولكنّني سمعتُ حامد يُخبرنا عنه مرّة واحدة فقط.
واتصلتُ فورًا بأخي الذي كان نائمًا بسبب فارق التوقيت، وقلتُ له: "أعلم أين أخذا إبني! قل للشرطة أنّهم في فرنسا وفي مدينة... بالذات! وعند رجل إسمه مازن ط. هيّا! إنهَض مِن الفراش!"
وحين أقفلتُ الخط شعرتُ بقوّة رهيبة! كنتُ قد قرّرتُ أن أكرّس حياتي للبحث عن إبني حتى لو لم تجده الشرطة. ولن يهدأ لي بال أو يُغمض لي جفن حتى أحمله بين ذراعيَّ!
وشكرتُ ربيّ على وجود ما يُسمّى بالإنتربول، أيّ الشرطة العالميّة. فبفضلها وبفضل تقصّيات شرطتنا المحليّة ومجهود أخي، تمّ العثور على الخاطفَين. لن أدخل بتفاصيل إعتقال حامد وزوجته واستجوابهما إلى أن اعترفا بخطف إبني.
وأسرع أخي لأخذ فريد بعد أن أرسلتُ له توكيلاً بذلك. واستطعتُ أخيرًا أن أقول لسامي والبسمة على وجهي: "نعم، إبننا بخير يا حبيبي".
ولأنّ القدر شاءَ أن يُفرج كلّ الأمور علينا، تحسّنَت حالة زوجي أخيرًا وزال عنه الخطر. وحين استطاع الخروج، أخبرتُه في طريقنا إلى البلد حقيقة ما حصل، فلم يُصدّق أذنَيه وبدأ بالبكاء لأنّه لم يتمكّن مِن حمايته أو مساعدته، وأثنى على قوّتي وعزمي.
ورأيتُ إبني واستطعتُ تقبيله ألف قبلة، وعانقتُه مطوّلاً وأنا أبكي مِن الفرح ووعدتُه بألا أتركه بحياتي.
بالطبع سُجِنَ الخاطفَان، وحين زار سامي أخاه في السجن ليسأله كيف استطاع القيام بخطف فريد، قال له هذا الأخير وبكلّ بساطة: "أنا أخوكَ الكبير، وأستحقّ أن يكون لي ولد أكثر منكَ".
وعندما أفكّر بالحلم الذي راودَني في تلك الليلة، أسأل نفسي إن كان ذلك مجرّد حلم أم أنّ الله أرادَني فعلاً أن أجد ابني لأنّ ما مِن أمّ في الدنيا يجب أن تمّر بالذي مررتُ به أو أن تفقد جزأها الأغلى.
حاورتها بولا جهشان