ماتَ والد خطيبي بلال وذهبتُ طبعًا مع أهلي لتأدية واجِب التعزية. لكن بعد وصولنا بفترة قصيرة، قامَت أخت الفقيد عن كرسيّها وصرَخَت بأمّ بلال: "الآن وقد ماتَ أخي، بإمكاني فضحكِ آيّتها الفاسِقة! فليعلَم الجميع هنا أنّكِ ألزَمتِ أخي المسكين بتربية ولَد ليس منه! أجل، بلال ليس ابن أخي، بل ابن شاب صايِع قضى معظم حياته في السجون! هل اعتقدتِ أنّ لا أحَد يعلَم بسرّكِ؟ منذ البداية أخبرَني أخي عن الأمر وكيف أنّه قبِلَ بابنكِ مِن كثرة حبّه لكِ، وحملَني على إلتزام الصمت. لكنّه رحَلَ الآن وبإمكاني التكلّم!".
نظَرَ الجميع إلى تلك المرأة باندهاش ثمّ إلى حماتي المُستقبليّة، التي تلبَّكَت كثيرًا قَبل أن تقول: "لستُ فاسِقة، بل كنتُ آنذاك صبيّة ساذِجة فصدّقتُ وعود ذلك المحتال قَبل أن يتركَني فجأة ليستغِلّ ضحيّة أخرى ويدخل السجن. أخوكِ كان أفضل أب لابني البِكر، ويا لَيتكِ بقيتِ على وعدكِ لزوجي، فلا ذنب لبلال بهذه المسألة العائليّة البحت! ألا تخجَلين مِن نفسكِ؟ تختارين هذه المُناسبة بالذات لفَضح أمور خاصّة ليست مِن شأن أحَد؟ أخرجي مِن هنا في الحال ولا ترَيني وجهكِ بعد الآن!".
فضَّلَت أمّي الانسحاب، ثمّ ذهبَت إلى القسم المُخصّص للرجال وأطلعَت أبي على ما حصَل. لَم يعرِف خطيبي بشيء إلّا بعد أن غادَرنا، فأسرَعَ بالاتّصال بي:
ـ لَم أكن أعلَم! أقسمُ لكِ! يا إلهي... ماذا أفعَل الآن؟ كيف بإمكاني استيعاب هذه الحقيقة؟ أنا ضائع!
ـ إهدأ يا حبيبي، فلا ذنب لكَ... على كلّ الأحوال، ما يهمّ هو أنّ أباكَ... أعني زوج أمّكَ، كان يعلَم الحقيقة منذ البدء.
ـ كيف تفعَل عمّتي ذلك بي؟!؟ فهي لطالما أحبَّتني وعاملَتني بحبّ وحنان... هل هي كانت تُمثِّل دور العمّة الحنونة طوال حياتي؟ وأمّي، كيف لها أن تخفي عنّي ابن مَن أكون؟ هل أنا مُحاط بكاذبين؟!؟ هل أنّكِ تكذبين عليّ أنتِ الأخرى؟!؟
ـ لا يا حبيبي، فحبّي لكَ هو حقيقيّ، إهدأ أرجوكَ!
إختفى بلال لأيّام عديدة، وكدتُ أفقِدُ عقلي مِن كثرة الهمّ، فخفتُ أن يفعل شيئًا بنفسه مِن كثرة خذلانه مِن أهله. لكنّه عادَ أخيرًا إليّ فاطمأنّ بالي عليه. في تلك الأثناء، إستاءَ أهلي مِن معرفتهم بأنّ بلال ليس بالفعل ابن ذلك الرجُل فحاولوا فسخ الخطوبة، لكنّني هدَّدتُهم بالزواج "خطيفة" وحرمانهم من حضور زفافي. عندها، فعلَت أمّي جهدها لتلطيف الأجواء، واستطاعَت أخيرًا إقناع أبي بتقبّل الأمر، ففي آخِر المطاف كان خطيبي يحمِل اسم زوج أمّه وتربّى على يدَيه، فما الفرق؟ وفي ما يخصّ الناس وكلامهم، أضافَت والدتي أنّهم سينسون الموضوع لينتقلوا إلى الثرثرة حول فضيحة أخرى.
إرتاحَ بالي مِن تلك الناحية، لكنّ بلال كان قد تغيَّرَ بشكل ملحوظ. فهو باتَ صامِتًا وغاضِبًا ويغيبُ كثيرًا مِن دون أن يُطلِعني على مكانه. وأمام هذه التغيّرات، إقترَحتُ عليه أن نؤجِّل موعد زواجنا، وهو هزَّ برأسه قائلًا:
ـ أنتِ الأخرى؟ كان يجدرُ بي أن أعلَم!
ـ لا! فأنا لا أزال أحبُّكَ كالسابق لا بل أكثر! لكن مِن الأفضل أن ننتظِر حتّى تستوعِب وتتقبَّل حقيقة هويّتكَ لنستطيع بناء عائلة سويًّا. أعِدُكَ بأنّني لن أتخلّى عنكَ أبدًا، صدِّقني.
سكَتَ بلال، ربّما لأنّه أدرَكَ أنّني على حقّ. لكنّه بقيَ على حاله، وصارَ إنسانًا آخَر لَم أعرِفه مِن قَبل. فما الذي حلَّ بذلك الشاب الهادئ والمُحِبّ والسعيد؟ تابَعتُ حياتي، لكنّ شيئًا في داخلي قالَ لي إنّ الآتي لن يكون هادئًا أو جميلًا، إحساس لا أستطيع وصفه تمامًا، لكنّني شعرتُ بضغط فوق صدري منعَني مِن التفاؤل.
الكلّ مِن حولي سألَني مِمّا أشكو، ولماذا لَم يعودوا يرَون خطيبي برفقتي، وكنتُ دائمًا أختلِق الأعذار وأبتسِم رغمًا عنّي. يا إلهي، هدّئ مِن بال حبيبي أرجوكَ!
علاقة بلال بأمّه وأخوَته ساءَت كثيرًا، إذ أنّه صارَ يعتبر نفسه غريبًا وسطهم، مع أنّهم، خاصّة أخوَته، أكّدوا له أنّ لا شيء تغيّر بالنسبة لهم وأنّه لا يزال أخاهم بكلّ ما للكلمة مِن معنى. أمّا بالنسبة لأمّه، فهي اعتذرَت منه كثيرًا لإخفاء الأمر عنه، وشرحَت مرّات عديدة له لماذا أبقَت أمر حَملها سرَّا عن الجميع. لكنّ خطيبي لَم يقتنِع مِن أحَد، وانعزَلَ عنهم بالذهاب للعَيش في شقّة صغيرة استأجرَها، وأبقى عنوانه سرّيًّا حتّى عنّي.
وبعد أسابيع قليلة، جاءَ خطيبي إليّ وقالَ لي:
ـ أُريدُ فَسخ خطوبتنا.
ـ يا إلهي! لماذا؟!؟ فكِّر جيّدًا، أرجوكَ!
ـ لقد فكّرتُ مليًّا بالأمر... إسمَعي، لا دخلَ لكِ بقراري فأنتِ صبيّة مُمتازة وألف شاب يتمنّى الزواج منكِ.
ـ تلك القصّة أثّرَت عليكَ كثيرًا يا حبيبي... لماذا لا تدَعني أساعدُكَ أو... لِما لا تذهب إلى أخصّائيّ نفسيّ؟
ـ علاجي ليس عندكِ أو عند الأخصّائيّ... بل عند أبي.
ـ رحمه الله!
ـ لا! بل أبي الحقيقيّ؟ فلقد وجدتُه بعد المأتَم بأيّام معدودة، بعد أن أجبَرتُ عمّتي على الاعتراف لي بهويّته، فأمّي رفضَت التكلّم. قصدتُ أبي وعرّفتُه على نفسي وها أنا أراه بصورة دائمة، إذ أعيشُ معه الآن.
ـ ماذا؟!؟ ظننتُكَ استأجَرتَ مسكنًا!
ـ لا، بل أعيشُ في بيته، هو ليس مُتزوّجًا، بل مُطلّقًا وعائلته بعيدة عنه كلّ البُعد.
ـ لكن... قالَت أمّكَ إنّه مُحتال ونصّاب و...
ـ إنّه أبي! أبي الحقيقيّ!
ـ وهو رفَضَ الزواج مِن أمّكَ مع أنّه علِمَ أنّها حامِل منه... وهو تركَكَ لمصيركَ!
ـ هو تغيَّرَ... كان شابًّا آنذاك وأخافَته المسؤوليّة.
ـ تغيَّرَ؟ هل سألتُه أين عائلته ولماذا لَم يعُد مع زوجته؟
ـ ما هذا الكلام؟!؟ إيّاكِ أن تُسيئي لِسمعة أبي!
ـ هو أساءَ لسمعته... إسمع، لا أستطيع إبقاءكَ معي بالرغم عنكَ، لكنّني أستطيع تنبيهكَ لأنّني أحبُّكَ. أنتَ ضائع وأتفهَّم الأمر، لكن احترِس مِن ذلك الرجُل الذي هو في آخِر المطاف غريب عنكَ. ولا تنسَ أنّ الذي كان أباكَ حتّى مماته ربّاكَ جيّدًا، واهتمَّ بكَ وصرَفَ عليكَ المال وأعطاكَ فرَصًا عديدة. إيّاكَ أن تنكُر يومًا جميله عليكَ! الآن اذهَب إلى حيث تريدُ وأفعَل ما تشاء!
رحَلَ بلال تارِكًا كلّ شيء وراءه وعاشَ مع أبيه البيولوجيّ. أمّا مِن ناحيتي، فأقنَعتُ نفسي بأنّ عليّ أن أنسى ذلك الشاب غير المُستقرِّ نفسيًّا، وأنّ مِن الأفضل أنّ ذلك حصَلَ قَبل زواجنا، فتصوّروا لو أنّ بلال علِمَ الحقيقة عن أبيه بعدما كنّا قد تزوّجنا وأنجَبنا! فكان ليتركني وأولادنا ويرحَل!
مرَّت حوالي السنة على لقائي الأخير بالذي كان خطيبي، عندما تعرّفتُ على شاب مُمتاز، وأحبَبتُه لأنّه أشعَرني بالأمان والاستقرار. لَم أحِبّه على الفور، فكان بلال لا يزال يسكنُ جزءً مِن قلبي، لكن على مرّ الأيّام والأشهر، نسيتُ الماضي كلّيًّا وقبِلتُ بأن أرتبِط ثانية. أخذتُ بركة أهلي الذين تنفّسوا الصعداء عندما علِموا أنّ فرصة ثانية أُتيحَت لي لبناء عائلة، وبدأتُ أتحضَّر للزواج.
لكنّ بلال علِمَ بخطوبتي واستاءَ للأمر كثيرًا. ماذا كان يظنّ؟ أنّني سأبقى عزباء مِن أجله بعدما هو تركَني ليلحَقَ بأب لَم يعترِف به؟ كان مُخطئًا، وكثيرًا!
وعندما هو اتّصَلَ بي سائلًا عن حقيقة ارتباطي وأكّدتُ له أنّ ما كان بينا بالفعل ماتَ بسببه، قال لي:
ـ لا، لن تتزوّجي، أعدُكِ بذلك!
ـ وما دخلكَ؟!؟ ألَم تفسَخ خطوبتنا ثمّ اختفَيتَ؟
ـ كان يجدرُ بكِ أن تنتظري حتّى تتحسّن حالتي.
ـ إنتظَرتُ سنة بكاملها! قُل لي، هل تحسّنَت خلال تلك الفترة؟
ـ لا أُريدُ التكلّم عن الموضوع الآن. هيّا، أتركي ذلك الرجُل!
ـ لن يحصل ذلك. إبقَ حيث أنتَ وانسَني!
ـ هل هذا قراركِ النهائيّ؟
ـ أجل.
ـ حسنًا... سنرى!
للحقيقة خفتُ مِن نبرة صوت بلال، نبرة قاسيّة ومُهدِّدة، فلَم أعهده يومًا هكذا. كيف بإمكان المرء أن يتحوّل هكذا فجأة؟ أم أن غضبه كان موجودًا منذ الأوّل واستفاقَ عندما شعَرَ بالخذلان مِن قِبَل أهله؟
قرَّرتُ أن أحيطَ نفسي بالحذَر، فمَن يدري ما بإمكانه أن يفعل لتعطيل زواجي. لَم أكن مُخطئة بمخاوفي، لكنّني لَم أتوقّع أبدًا ما فعلَه بلال ليمنَعني مِن الزواج... أبدًا!
يتبع...