أخي الصغير في خطر!

عدتُ إلى وطَني بعد غياب دامَ سنوات طويلة في الخارج، لأنّني تعِبتُ مِن العمَل وأرَدتُ أن أرتاحَ أخيرًا بعدما جمَعتُ ما يكفيني لآخِر أيّامي. وكنتُ عازِبًا وحرًّا وفي الأربعين مِن عمري. كانت العودة ممزوجة بمشاعر متناقضة: شوقي لأهلي ولجذوري، وخوفي مِمّا قد أكتشفُه بعد هذا الغياب. عرضَت عليَّ أمّي استضافَتي عندها، بينما أجِدُ منزلًا جميلًا أعيشُ فيه في وطَني الحبيب، إلّا أنّني قرَّرتُ أن أذهب إلى بيت أخي الأصغر، سامي، الذي كنتُ أحمِلُ له دومًا مكانة خاصة في قلبي.

عندما وصَلتُ إلى بيت سامي، إستقبلَتني زوجته، رُبى، بابتسامة باردة تخفي شيئًا لَم أستطِع تفسيره. أمّا سامي، فكان في غرفته، يرقدُ في سريره مريضًا. كان منظره صادمًا: نحيلًا، شاحِب الوجه، بالكاد يتحدَّث. شعرتُ بأنّ شيئًا ما ليس على ما يُرام، فلقد تحدّثتُ معه عبر الفيديو قَبل وصولي بأقلّ مِن شهر، وبدا لي في حالة لا بأس بها، فالجدير بالذكر أنّه كان يُعاني مِن قلبه مذ ما كان مُراهقًا.

في الليلة الأولى، وبينما كنتُ أجلسُ مع رُبى في غرفة المعيشة، سألتُها عن حالة سامي:

- كيف حاله؟ يبدو أنّ حالته خطيرة. هل يأخذ العلاج بشكل صحيح؟

 

تردَّدَت رُبى للحظة ثمّ قالَت:

- بالطبع، الأطباء وصفوا له أدوية معيّنة أحرصُ على إعطائها له يوميًّا. لكنّ حالته صعبة، وجسَده لا يستجيب كما ينبغي وحسب.

 

شعرتُ بعدَم الارتياح لكلماتها. كان هناك شيء في نبرتها يوحي بأنها تخفي شيئًا.

في اليوم التالي، قضَيتُ وقتًا أطوَل مع سامي، وهو بدا لي أنّه يُعاني مِن الإهمال أكثر مِن المرَض نفسه. عندما سألتُه عن الأدوية، قال لي بصوت ضعيف:

- أشعرُ أنّها لا تُفيدُني، يا جاد. في كلّ مرّة أتناولُها أشعرُ بالغثيان وأزدادُ تعَبًا.

 

سألتُه إذا كان قد تحدَّث مع طبيبه مؤخّرًا، فردَّ:

- لا... رُبى تقولُ إنّ الأمور تحت السيطرة ولا داعٍ للقلَق.

 

بدأ الشكّ يتسلّل إلى قلبي، وبعد الغداء لاحظتُ أنّ رُبى كانت تقدِّم له طعامًا غير مناسِب لحالته، مليئًا بالدهون والملح، رغم علمها أنّ سامي، كما ذكَرتُ، يُعاني مِن مشاكل في القلب.

في المساء، بينما كانت رُبى مُنشغلة بهاتفها، إستغلَّيتُ الفرصة لتفقّد الأدوية التي تُعطيها لسامي. لاحظتُ أنّ بعضها كان مُختلفًا عن الأدوية التي وصفَها الطبيب، والبعض الآخَر بدا قديمًا وانتهَت صلاحيته. كان الأمر غريبًا ومُثيرًا للقلَق.

واجهتُ رُبى مباشرةً:

- رُبى، هذه الأدوية ليست ما وصفَه الطبيب لسامي. لماذا تفعلين هذا؟!؟

 

إبتسمَت ابتسامة غريبة وقالَت:

- جاد، أنتَ لا تفهم الوضع هنا، فقد وصَلتَ لتوّكَ. أنا أفعَل ما أراه مناسبًا. سامي لا يتحسّن رغم كلّ شيء، وهذه الأدوية تساعِده على الأقلّ في تخفيف الألَم.

 

لَم أقتنِع بكلامها، وشعرتُ أنّ هناك سرًّا أكبَر تحاوِل إخفاءه.

في اليوم التالي، قرَّرتُ أن أتحرّى أكثر. أخذتُ عيّنة مِن الأدوية إلى صيدليّ قريب وسألتُه عنها. ما قالّه لي كان صادِمًا؛ بعضها كان مُهدّئًا قويًّا لا يُناسب حالة سامي على الإطلاق، والباقي لا علاقة له بمشكلته الصحّيّة.

عُدتُ إلى البيت وأنا أشعُر بالغضب والقلَق. قرّرتُ أن أتحدّث مع سامي بصراحة، لكنّ حالته كانت ضعيفة جدًّا بحيث لا يستطيع الكلام مطوّلًا. قالَ لي بصوت متقطِّع:

- جاد... أشعرُ بأنني عالِق... لا أستطيع المواجهة.

 

- عالِق في ماذا؟ ماذا يحدُث بينكَ وبين رُبى؟

 

لكن قَبل أن يكمِل، قاطعَتنا رُبى التي دخلَت الغرفة فجأة، ونظراتها مليئة بالريبة:

- ماذا تفعل هنا؟ سامي بحاجة إلى الراحة!

 

إنسحَبتُ مِن دون جدال، لكّنني قرَّرتُ أن أُراقِب الوضع عن كثَب. وذات ليلة، وبينما الجميع نيام، سمعتُ صوت رُبى وهي تتحدّث بصوت منخفِض في المطبخ. إقتربتُ بهدوء وسمعتُها تقولُ:

- لا تقلق، الأمور تحت السيطرة... لن يطولَ أمر سامي على هذا الحال، وكلّ شيء سيكون كَما خطّطنا له.

 

شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي: مَن الذي كانت تتحدّث معه؟ وما الذي تعنيه بكلامها؟ هل يُمكن أن تكون تخطّط لشيء أسوأ؟؟؟

في الليلة ذاتها، وبينما كنت أرتِّب أغراضي في غرفة الضيوف، لاحظتُ وجود هاتف سامي القديم على رفّ قريب. شعرتُ بالفضول لتفقّده، ففتحتُه وبدأتُ أتصفّح الرسائل القديمة. كانت هناك محادثة بين سامي ورُبى منذ أشهر. في إحدى الرسائل، كتَبَ سامي: "رُبى، أريدُ أن أعرف الحقيقة، هل هناك شخص آخَر في حياتكِ؟" وجاء ردّ رُبى بعد ساعات: "أنتَ تتخيّل أشياء لا وجود لها، سامي. ركِّز على صحّتكَ ولا تشغل بالكَ بهذه الأمور".

في اليوم التالي، أخذتُ خطوة جريئة: إتصلتُ بالطبيب الذي كان يُتابع حالة سامي، وأخبرتُه بما رأيتُه وسمعتُه. طلَبَ منّي أن آتي بسامي إلى العيادة فورًا. لَم يكن الأمر سهلًا، لكنّني تمكَّنتُ مِن إقناع رُبى بأنّ الطبيب طلَبَ فحصًا عاجِلًا.

في العيادة، أكَّدَ الطبيب شكوكي؛ الأدوية التي كان يأخذُها سامي تسبّبَت في تدهور حالته، والطعام الذي كان يُقدَّم له زادَ مِن سوء وضعه الصحّيّ. كان الطبيب غاضبًا، وطلَبَ منّي أن أحميَ سامي مِن هذا الإهمال. وعندما عدنا إلى البيت، واجهتُ رُبى بكلّ ما اكتشفتُه. لكنّ ردّة فعلها كان مفاجئة؛ إنفجَرَت بالضحك وقالت:

- دائمًا ما كنتَ البطل المثاليّ. لكنّكَ لا تفهَم شيئًا. سامي مريض منذ سنوات، وأنا سئمتُ مِن هذه الحياة. لدي الحق في أن أعيش!!!  إفعَل ما تشاء، لكنّكَ لن تستطيع إثبات شيء... على الأقلّ بالنسبة لنوايايَ... سأقولُ إنّني اقترفتُ خطأً بالأدوية لا أكثر.

 

شعرتُ بالغضب، لكنّني قرّرتُ أن أتحلّى بالهدوء. قُمتُ بالاتصال بالشرطة وأبلغتُهم بكلّ شيء، وطلبتُ منهم التحقيق في الأمر. في الوقت نفسه، أصرَّيتُ على نقل سامي إلى مكان آمِن، ووافقَت أمّي طبعًا على استقباله في منزلها.

ثمّ أخذَت الأحداث منحىً غريبًا عندما بدأَت الشرطة التحقيق، فاكتشفوا رسائل بين رُبى وشخص غريب، تُشير إلى وجود علاقة مشبوهة وكلام يوحي بالتحضير للتخلّص مِن أخي... نهائيًّا! و كانت الأدلّة كافية لإدانتها وشريكها. لكنّ المفاجأة الكبرى جاءَت عندما اعترفَت رُبى بشيء لَم أكن أتوقّعه. فقالَت دفاعًا عن نفسها:

- كان سامي يعرفُ كل شيء، لكنّه لَم يفعَل شيئًا لأنّه لم يكن يُريد أن يخسَرني. كان يعلَم أنّني لم أعُد أحبه وأنّني أخونُه، لكنّه فضّلَ الصّمت... رجُل جبان!

 

هذا الاعتراف جعلَني أشعر بمزيج مِن الحزن والغضب. كيف يُمكن أن يتحمّل سامي كلّ هذا الألَم بصمت؟ وكيف يُمكن لرُبى أن تكون بهذا القسوة؟ ركضتُ أسأل سامي عن الأمر، فقال:

- أجل، كنتُ أعرف منذ البداية... كنت أعلَم أنّ رُبى لَم تعُد تحبّني، وأنّ هناك شخصًا آخَر في حياتها... هي أنكرَت طبعًا لكنّها لَم تخفِ عنّي تلك العلاقة الحميمة مع رجُل آخَر.

 

- لكن لماذا لَم تقُل شيئًا؟ لماذا تركتَها تفعل كل هذا بكَ؟ هي كانت تنوي قتلكَ!

 

- في البداية، كنتُ أعتقد أنّني أستطيع استعادتها. كنتُ أظنّ أنّ حبّنا القديم سيعيُدها إليّ. لكن مع مرور الوقت، بدأتُ أفهَم أنّها اختارّت طريقًا مُختلفًا. لَم أرِد أن أُحطِّم العائلة أو أن أواجهها أمام الجميع. كنتُ أتحمَّل الألَم بصمت، مُعتقدًا أنّ الأمور قد تتحسّن، لكن يبدو أنّني كنت مخطئًا... صدّقني، لَم يخطُر أبدًا ببالي أنّها تُريدُ قتلي.

 

كلماته كانت مليئة بالأسى، لكنّها أظهرَت قوّة صَبر لم أكن أتوقّعها. سامي كان يعرف كل شيء، لكنّه اختارَ الصمت، بدافع الحبّ أو ربّما خوفًا مِن الوحدة. وهذا الصمت كادَ أن يدفع ثمنه حياته.

في النهاية، قرَّرتُ أن أكون إلى جانبه في كلّ خطوة. بدأ سامي يتعافى، جسديًّا ونفسيًّا. أمّا رُبى، فواجهَت مصيرها العادِل. وعرفتُ أنا أنّ عودتي إلى الوطن ومكوثي في بيت سامي لَم يكونا صدفة، بل نداءً لإنقاذ أخي، واستعادة رابط الأخوّة الذي لا يُقدَّر بِثمَن.

 

حاورَته بولا جهشان

المزيد
back to top button