شاهَدتُ بِعَينيّ كيف أنّ أختي دمّرَت حياة ابنها، بالرغم مِن مُحاولاتي العديدة لتخليصه مِن مخالبها. فقد كان وجيه وحيدها الذي وُلِدَ بعد موت أبيه بشهر واحد. فالمسكين صهري توفّيَ قَبل أن يرى ابنه، بسبب أزمة قلبيّة حادّة أخذَته في غضون دقائق قليلة. وتعلّقَت سهى أختي بوجيه كما يتعلّق الغريق بطوق النجاة، وباتَ محوَر حياتها كلّها. فتصوّروا أنّها لَم تكن تُريدُ إرساله إلى المدرسة حين كبرَ لولا تدخّلي الحازِم، بل أرادَت إبقاءه معها في البيت! والمسكين خافَ مِن رفاقه ومُدرِّسته، وظلَّ يبكي يوميًّا طوال السنة لكثرة تعلّقه بالبيت وأمّه. لكنّه تخطّى طبعًا تلك المرحلة وصارَ تلميذًا كغيره، إلا أنّ شوقه للعودة إلى مسكنه كانت أقوى مِن كلّ شيء. فهناك كان يكمنُ ملاذه ومُعاملة أمّ لا مثيل لها. لذلك هو لَم يُصادِق أحَدًا بالتحديد، إذ كان يعني أنّ عليه الخروج مع أصدقائه إلى أماكن مُختلِفة. وحدي كان لي الحقّ آنذاك بأخذه إلى المطعم أو المُتنزّه مِن دون وجود أختي معنا. هناك كان يجلسُ وجيه صامتًا، وبالكاد يُجيبُ على أسئلتي أو يتفاعَل معي. كنتُ أعلَم أنّه يُرافقُني بناءً لرغبتي، لكنّه لَم يكن سعيدًا على الاطلاق بل ينتظرُ موعد العودة. حزِنتُ مِن أجله كثيرًا، لأنّني لَم أكن أتصوّر أيّ مُستقبل واعد له.
بعد سنوات، تبيّنَ أنّ وجيه يُحبّ الموسيقى كثيرًا، فجاءَت سهى له بمدرِّسة موسيقى بعد أن اشترَت له بيانو كبيرًا، وذلك طريقة أخرى لها لتُبقيه معها في البيت. فهي كانت تخافُ عليه بصورة لا توصَف وتُردِّد للجميع: "هو كلّ ما تبقّى لي في هذه الدنيا"، مع أنّني وأهلي كنّا نُلازمُها ونُساعدها مِن دون انقطاع. فهي لَم تكن وحيدة على الاطلاق، بل تتصوّرَ ذلك وحسب.
تزوّجتُ بعد بضع سنوات وأنجَبتُ ولَدًا بدوري، واستنَدتُ على تجربة أختي مع ابنها لأتفادى أخطاءها، وربَّيتُ ابني جيّدًا، فأعطَيتُه مساحة كافية لتنمو شخصيّته واستقلاليّته. في هذه الأثناء، باتَ وجيه ماهرًا بلعب البيانو، فدخَلَ معهد الموسيقى حيث أبهَرَ الأساتذة. لو ترَونه وهو يعزف! كان الأمر وكأنّه في عالَم آخَر، عالَم لا يوجَد فيه أحَد سواه. وفهِمتُ أنّ الموسيقى كانت تُعطيه الشعور بالأمان بعدما كبرَ مُحاطًا بالمخاوِف المُتعدِّدة النابعة مِن خيال وقلَق أمّه.
خطَرَ ببالي أن يستفيدَ ولَدي مِن موهبة وجيه، فطلبتُ مِن سُهى أن يُعلّمه البيانو، إلا أنّها رفضَت مِن دون أن تستشيرَه مُضيفةً: "جِدي لإبنكِ موهبة أخرى، فهذه خاصّة بوجيه وحده!"، ذُهِلتُ لجوابها، لكنّني لَم أُصِرّ، فكنتُ أعلَم أنّ لا أحَد بإمكانه الاقتراب مِن وحيدها، خاصّة إذا كان ولَدًا آخَر. وجّهتُ ولَدي إلى الرياضة، وهو أحبّ الفكرة كثيرة فاعتنَقَ الفنون القتاليّة الناعِمة وحصَدَ الميداليّات.
صارَ وجيه في سنّ يُتيح له الزواج، أو على الأقلّ التحضير لإيجاد عروس، لكنّه لَم يكن يعرفُ أحدًا على الاطلاق، أكان صديقًا أم صديقة. إلا أنّه لَم يشعُر بالحاجة إلى بناء عائلة أو حتّى وجود انثى في حياته، فلِمَ يفعل؟ ألَم يكن لدَيه أمّه؟ لكنّ سُهى أخذَت على عاتقها إيجاد عروس له، ليس لأنّها أدركَت أنّه يحقّ لابنها بحياة طبيعيّة، بل لأنّها كبرَت وتعِبَت وأرادَت مَن يُريحُها. كان الشرط طبعًا أن تعيش العروس معها في بيت واحد... وتُعامِل ابنها تمامًا كما اعتادَ أن يُعامَل، أيّ كالولَد الملك. وكشأن أيّ أمّ، أرادَت سُهى لوجيه أفضل صبيّة مِن أفضل مستوى، لكنّ جميع العائلات التي هي تقرّبَت منها، خافَت مِن تزويج ابنتهم لشاب مثل وجيه، بالرغم مِن براعته الموسيقيّة التي كانت تجلِب له المال والشهرة. ففي نظرهم، هو لَم يكن رجُلاً بإمكان زوجته الاتّكال عليه، وأمّه لَم تكن حماة تحلمُ بها كلّ فتاة. فكلام الناس عن أختي وابنها وصَلَ لكلّ أنحاء البلدة وحتّى إلى المدينة، وباتا مثلاً يُضرَب بهما عن العلاقة غير الصحّيّة بين أمّ وابنها.
خابَ أمَل سُهى لكنها قرّرَت ألا تستسلِم أبدًا! فمَن يظنّون أنفسهم، كلّ هؤلاء الذين يرفضون شابًّا كابنها؟!؟ إنّه الأجمَل والأفضَل على الاطلاق! لِذا هي وسَّعَت نطاق بحثها، فوصلَت إلى العاصمة حيث لا أحَد يعرفُهما. هناك قصدَت امراة معروفة بتدبير الزيجات، فرسمَت لها صورة غير صحيحة عن وجيه وعن حياتهما في البيت. صدّقَتها المرأة وسرعان ما وجدَت لها طلبَها: صبيّة خلوقة وعاقِلة وابنة أناس شرفاء. أُخِذَ الموعد، واصطحبَت أختي ابنها للتقدّم للعروس التي كانت فعلاً تتحلّى بالمواصفات المذكورة. إلا أنّ إعجاب وجيه بالصبيّة كان واضِحًا بالنسبة لأمّه، فخافَت أن يفلِتَ مِن قبضتها وتُديره العروس كما تشاء، ومَن يدري، تقلبه ضدّها يومًا. لِذا هي أفشلَت الزيجة منذ الزيارة الأولى، بعد أن قرّرَت أن تقطَع الجلسة مِن نصفها وتقول لهؤلاء الناس: "إبنتكم ليست ما نطلبه". غضِبَ وجيه إلا أنّه لَم يتفوّه بكلمة، بل لحِقَ بأمّه خارجًا وسألَها مِمّا تشكو الصبيّة فأجبَته: "هي لا تشكو مِن شيء بل أنتَ! إسمَع، أنا المرأة الوحيدة في حياتكَ، أتفهَم؟!؟ تزويجكَ هو فقط لإراحتي! لا تتخايل أبدًا أمورًا ليست موجودة!". وأنا علِمتُ بكلّ ذلك مِن فَم وجيه يوم زرتُه وأمّه، وذهبَت سُهى إلى المطبخ لاعداد القهوة. أسِفتُ كثيرًا لهذا الشاب، فكان مِن الواضح أنّه لن يعيشَ بصورة طبيعيّة أبدًا بسبب جنون أمّه. يا للمسكين!
مضى وقت طويل بعد تلك الحادثة وانشغَلتُ بعائلتي، فلَم أعلَم أنّ أختي وجدَت مُبتغاها أخيرًا بشخص صبيّة تعرّفَت إليها عند مُصّفِفة الشَعر. فهنادي، وهذا إسمها، كانت تعمَل هناك كمُساعِدة للمُصفِّفة، وبدَت عاقِلة وخجولة وما هو أهمّ، غير جميلة على الاطلاق، بل لدَيها ندبة كبيرة على جهة مِن وجهها. إضافة إلى ذلك، علِمَت أختي أنّ الصبيّة يتيمة الأب والأمّ وهي تعيشُ عند عمّها، ووجودها وسط تلك العائلة كان للأسف غير مرغوب به. وحين أخبرَتني سُهى عن "العروس المثاليّة" ووصفَتها لي، أقسمُ أنّني رأيتُ على وجهها بسمة لعينة وفهمتُ أنّها إختارَت لولَدها إنسانة لن تتفوّق عليها أبدًا، بل ستكون خاضِعة لها وممتنّة لها لأنّها أخرجَتها مِن بيئتها وأعطَتها فرصة للزواج والانجاب.
لكن حين تعرّفَ وجيه على زوجته المُستقبليّة، الأمر الذي حدَثَ أمامي، غضِبَ كثيرًا وراحَ يختبئ في غرفته. لحِقَت به سُهى وعادَت به إلى الصالون بعد دقائق طويلة ليجلِسَ بالقرب مِن هنادي. بقيَ ابن أختي جالِسًا صامِتًا ومِن دون أن ينظُر إلى عروسه، إلى حين استأذنَت هذه الأخيرة ورحلَت. أكّدَت لها سُهى أنّ ابنها خجول للغاية إلا أنّه أُعجِبَ بها كثيرًا.
تمَّت الخطبة بعد أيّام، وحُدِّدَ موعد عقد القران في حين كان العريس غير موافق على زيجته. لكن كلّنا كنّا نعلَم أنّ لا كلمة ولا قراراً له وأنّ أمّه ستُجهِّزه لقبول مصيره بسرور.
تزوَّجَ وجيه أخيرًا مِن هنادي التي كانت بمُنتهى السعادة، بينما هو لَم يُبدِ أيّ مشاعر مُعيّنة أثناء الحفل. فكان الأمر وكأنّه مدعوّ للزفاف وليس العريس. وعلِمتُ، ويا لَيتني لَم أعلَم، أنّ أختي دخلَت غرفة العريسَين في ليلتهما الأولى لـِ "تفقّد" سَير الأمور، وأقنعَت هنادي وابنها أنّ لا خطَب بذلك. كانت أختي تُبسِط بذلك سلطتها منذ اللحظة الأولى، وتُفهِم الثنائيّ أنّها ستكون جزءًا لا يتجزّأ مِن حياتهما. أسِفتُ كثيرًا للعروسَين خاصّة لهنادي، فمهما كانت حياتها صعبة عند عمّها، ستكون أسهَل مِن حياتها عند سُهى. وربّما كان مِن الأفضل لها أن تبقى عازِبة طوال حياتها.
حياة هنادي صارَت صعبة في ذلك البيت، فهي باتَت كالخادِمة لأختي وابنها الذي لَم يكترِث لها على الاطلاق، بل بقيَ يُمارس الموسيقى وإطاعة أمّه طاعةً عمياء. فكانت سُهى تُذكّرُ كنّتها على الدوام ببشاعتها وندبتها وغياب أبوَيها، وتُمنِّنها لأنّها جعلَت منها "سيّدة منزل مُحترَمة". حاولتُ كثيرًا الدفاع عن المسكينة كلّما كنتُ هناك، إلا أنّ أختي هدّدَتني بقطع صِلتها بي إن بقيتُ أتدخّل في شؤونها.
بعد ذلك، صارَ مطلوبًا مِن الكنّة ولَدًا طبعًا، وإلا وجدَت نفسها في الشارع. لكن كيف لها أن تُنجِب إن كان زوجها لا يقومُ بواجباته الزوجيّة معها؟ فبعد ليلة الزفاف الشهيرة، هو لَم يَلمسها قط. علِمتُ بتلك التفاصيل يوم أخبرَتني هنادي باكية أنّها لا تعرِف كيف يُمكنُها أن تحمَل بلا زوج فعليّ. عندها، سمَحتُ لنفسي التكلّم مع وجيه الذي كان بمثابة ابني. فبدأتُ الحديث بطريقة طبيعيّة وسلِسة، قائلة إنّ الإنجاب هو أمر جميل ومُمتِع وإنّ الأولاد هم زينة البيت. ثمّ سألتُه إن كان يجِد زوجته جذّابة وجميلة، وإن كان يشعرُ تجاهها بالحبّ أو حتّى الانجذاب. وهو أجابَني:
ـ أنا لا أحبُّها... لا أحِبُّ أحَدًا سوى أمّي!
ـ أجل، لكن...
ـ ولَم أُحِب ما فعلتُه مع هنادي في تلك الليلة، إنّه أمر مُقزِّز للغاية!
ـ لكنّ الطبيعة...
ـ لا يهمّني! فلطالما قالَت لي أمّي إنّ هذه الأمور مُعيبة ولا يجِب أن أفعلها مع أحَد، وها هي تطلبُ منّي العكس!
ـ هي أرادَت حمايتكَ قَبل الزواج مِن ارتكاب حماقة... لكنّ هنادي هي زوجتكَ شرعًا.
ـ لِما لا تدَعوني وشأني؟!؟ أحبّ الموسيقى وحسب... وحين أعزِفُ على البيانو أشعرُ بسعادة لا توصَف. لا أُريدُ زوجة! أريدُ فقط أمّي والبيانو!
كان مِن الواضح أنّ ابن أختي يشكو مِن خلَل نفسيّ عميق وكان السبب معروفًا.
طلََّقَ وجيه هنادي، ولَم نعرِف شيئًا عنها بعد ذلك. المسكينة... أين ذهبَت وكيف تدبّرَت أمورها؟!؟ للحقيقة، كنتُ الوحيدة التي انشغَلَ بالها على هنادي، فلَم يكن يأبَه لها أحَد سوايَ. سُهى هي التي قالَت لإبنها أن يُطلّق زوجته بعد أن اتّضَحَ لها أنّ لا منفعة منها لا في الواجبات المنزليّة ولا الزوجيّة. أمّا بالنسبة لوجيه، فهو لَم يشعُر بغيابها على الاطلاق بعد أن استعادَ عالمه الخاص.
كان بإمكان القصّة أن تنتهي هنا، لكن لا أحَد يعلَم ما يُخبّئه الغَد وكيف لمصير الناس أن يتغيّر بصورة غير مُتوقّعة. فلا أحَد حسَبَ حساب... سعاد!
مَن هي سعاد؟ بكلمة، هي التي قَلبَت الموازين كلّها!
يتبَع>>> أختي ووحيدها (الجزء الثاني)