قضيتُ سنيناً بعيدة عن أولادي بسبب خيانة مَن خلتُه بجانبي، ولم يمرّ يوم خلال تلك الفترة دون أن أبكي تحسّراً على فقدان أعزّ أناس على قلبي. ولكن مصيبتي بدأت قبل ذلك، حين فقدَ زوجي الحبيب حياته مِن جرّاء حادث في مكان عمله ووجدتُ نفسي أرملة بعد أقلّ مِن خمس سنوات على زواجي وأماً لولدَين صغار. ولِكثرة ألمي وحزني، إلتجأتُ إلى حماي الذي كان رجلاً قويّاً طالبة الرعاية. إستقبَلني بأذرع مفتوحة ووعدَني أنّنا سنكون بخير معه ومع إبنته سامية.
كانت هذه الأخيرة، فتاة في العشرين مِن عمرها وكنتُ أحبّها كثيراً وكانت قريبة منّي في السنّ وتقاسمني أفكاري وتطلّعاتي. وهكذا إنتقلنا للعيش معهما وكنتُ سعيدة أنّني لن أحمل عبء تربية ولدَين لوحدي. ولكنّ عمي كان قاسيّاً جدّاً ويريد أن يتبع الجميع تعليماته دون أيّ نقاش وهذا لم يكن يناسب شخصيّتي المستقلّة. في البدء لم أقل شيئاً، لأنّني كنتُ لا أزال أبكي زوجي ولأنّني كنتُ ضيفة عنده ولكنّني بدأتُ أثور على قرارات ذلك الرجل وأحاول فرض مشيئتي، خاصةً بما يخصّ تربية ولديّ. وولِدَ حينها صدام دام سنيناً طويلة ولم ينتهي إلّا مع موته.
وكانت سامية تحاول تهدئة الأجواء بيننا قدر المستطاع، لأنّها هي الأخرى كانت تخاف مِن أبيها وترضخ له ولكنّها كانت ترى أنّه يحقّ لي إبداء رأيي بما يجري. ولكنّ تدخّلها كان يزيد مِن التوتر وكنّا جميعاً ننهي النقاش بالصراخ والبكاء. أمّا طفليّ، فكانا بعيدَين عمّا كان يحصل، لأنّني حرصتُ دائماً على ألّا يدفعا ثمن خلافاتنا، خاصة أنّهما فقدا أباهم. ومع مرور الزمن، باتَ عمّي يكرهني، لأنّه رأى فيَّ المرأة العنيدة والغير خاضعة وكان هذا الأمر غير مقبول عنده، خاصةً أنّه كان قد قضى سنيناً يعوّد زوجته على الإمتثال لرغباته كلّها وكان فقدَها بعد ما أصبحَت تماماً كما يريدها، أمّا إبنه أيّ زوجي، فكان قد أفلتَ منه لأنّه قضى معظم طفولته ومراهقته في مدرسة داخليّة. ومِن جانبها، كانت إبنته سامية على طريقها بأخذ مكان أمّها ولكنّها كانت لا تزال تتحلّى ببعض الآراء الخاصة بها.
وإشتدّ الخلاف بيني وبين عمّي، لدرجة أنّ الحياة لم تعد تُحتمل معه، لأنّه بدأ يلومني لأنّني لم أمت بدلاً عن إبنه ويجد فيّ كل الأسباب التي توجب عليّ أن أكون ميتة. ومِن بعدها، بدأتُ أفتّش عن حلّ آخر ووجدتُ أنّه مِن الأفضل أن أسافر إلى أستراليا عند أقاربي المتبقّين. راسلتُهم وقبلوا إستضافتي أنا وولديّ، لا بل أكّدوا لي أنّهم سيجدو لي عملاً في مؤسّستهم ومسكناً صغيراً يكون لنا فيه خصوصيّتنا. كنتُ فرحة جداً لهكذا فرصة وبدأتُ أتهيّأ للرحيل وعملتُ جهدي لأبقي هذا سريّاً، لأنّني كنتُ أعلم أنّ والد زوجي سيفعل المستحيل لإفشال مشروعي، كي لا يفقد السيطرة عليّ وعلى ولديّ ولكنّني لم أقدر أن أخفي الأمر عن سامية التي لاحظَت أنّني بدأتُ أوضّب أمتعتنا وأهيّأ الأوراق اللازمة للسفارة. فقالَت لي في ذاك ليلة:
- أعلم أنّكِ تنوين الرحيل...
- أجل... لا أستطيع العيش هنا... أنا آسفة ولكنّكِ تعلمين كيف هو أبوكِ...
- كنتُ أعلم أنّكِ ستتركيننا... إلى أين ستذهبون؟
- إلى أستراليا... هل أستطيع الإطمئنان على أنّكِ لن تفشي سرّي؟
- أجل... أنتِ بمثابة أختي... لا تشغلي بالكِ بهذا... عليكِ التركيز على رحلتكِ، فمشواركِ طويل وشاق... أتمنّى لكِ التوفيق.
ولكنّ عمّي لم يكن غبيّاً وشعرَ بأنّ شيئاً يُحاك، فزاد تشدّداً وباتَ يراقب كلّ تحرّكاتي ويسأل الكثير مِن الأسئلة، لِدرجة أنّني خشيتُ أن يكون قد علِمَ بما يجري. لذا طلبتُ مساعدة سامية لِنقل الحقائب سرّاً ومِن بعدها إتّفقتُ معها بأن تجلبَ لي ولديّ إلى المطار حيث أكون بإنتظارهما لنركب الطائرة ونسافر بعيداً. وأخذتُ سيّارة أجرة وذهبتُ إلى المطار وإنتظرتُ. ولكن لم يأتي أحد. وبينما كانت الساعة تمرّ، إتّصلتُ بِسامية وهذا ما قالَته لي:
- كنتُ آتية إليكِ مع الأولاد حين أوقفَني أبي ومنعَني مِن الخروج...
- يا إلهي ماذا سأفعل الآن؟
- سافري أنتِ وسأهتمّ بالباقي.
- أبداً! لن أترك أطفالي وأرحل!
ولكنّ سامية أقفلَت الخط بِوجهي. أخذتُ سيّارة أجرة وذهبتُ بسرعة إلى منزل عمّي وقرعتُ الباب ولكنّه بقيَ مقفلاً. بدأتُ أخبّط بقوّة وأصرخ عاليّاً أنّني أريد الدخول لآخذ ولديّ. حينها سمعتُ صوت عمّي يقول:
- لن تدخلي! هيّا إذهبي إلى أستراليا ولا تعودي!
علمتُ أنّ سامية أخبرَت أباها بكل شيء. فصرختُ لها:
- سامية! أرجوكِ... لا تمنعيني مِن طفليّ!
وبعد سكوت دام ثوانٍ طويلة، سمعتُ صوتها مِن خلف الباب يقول:
- أردتِ تركنا... وتركتني أنا بالذات... أردتِ الهروب منا... لماذا؟ فتحنا لكِ بيتنا وإهتميّنا بكِ... أنتِ ناكرة للجميل ولا تستحقّين الرحمة.
عندها هدّدتُها بِطلب الشرطة فقال لي عمّي:
- إن فعلتِ فسنقول أنّكِ أمّ سيئة تعيشين حياة منحلّة وتعاشرين رجالاً عديدة وسيكون هناك شهود مِن قبلي سيقسمون أنّها الحقيقة وسيذاع الخبر في كل البلدة وستشار أصابع الإتّهام إليكِ... سيكبر ولدَيكِ مع هذه الصورة في ذهنهما... هل هذا ما تريدينه؟ إذهبي إلى أقاربكِ وعودي بعد سنة وسأعطيكِ الأولاد... وإن لم تفعلي فلن ترينهما في حياتكِ.
ولِكثرة يأسي، رجعتُ إلى المطار وسافرتُ ووصلتُ إلى هناك باكية. حضنَني أقاربي وعملوا جهدهم لتهدأتي وتأمين كل ما يلزمني لكي أبقى هناك مدّة سنة على أمل أن أعود وآخذ ولديّ ولكنّني كنتُ أعلم في قرارة نفسي أنّ عمّي لن يتخلّى عنهما بسهولة دون معركة.
وبعد سنة، عدتُ أدقّ بابهم ولكنّهم قالوا لي أن أعود بعد سنة أخرى. عندها ذهبتُ لإستشارة محامي لِمعرفة ما أستطيع فعله، فقال لي أنّ شهادة عمّي وإبنته ضدّي قد تؤثّر كثيراً على قرار القاضي، خاصة إن إستطاعوا جلب شهود زور عليّ، فعندها قد أفقد أيّ أمل بالإحتفاظ بأولادي.
فنصحَني أن أحاول كسب ودّهما وأن أكون صبورة لعلّهما بدّلا رأيهما أو وجدوا أنّ الإعتناء بولدَين صغيرَين شيء صعب عليهما. لذا عدتُ إلى أستراليا وقلبي مليء بالحزن وكنتُ أعود كلّ سنة وكنتُ أُجابَه بذات الجواب. وهكذا مرَّت السنين وكبرَ طفليّ وأصبحا في عمر يذهبان فيه إلى المدرسة وكنتُ أذهب وأراقبهم مِن خلف الحائط خلال الإستراحة، لأرى كيف حالهم ولكنّني لم أجرؤ على مكالمتهما خوفاً مِن أن يخبرا جدّهما أو عمّتهما.
وكان قد أصبح لي عملاً جيّداً في الغربة وشقّة جميلة حضّرتُها وأنا أفكّر أنّ يوماً سيأتي ويسكن فيها ولديّ. أمّا حياتي العاطفيّة، فلم تكن موجودة، لأنّني لم أفكّر يوماً بنفسي وكل ما كان يشغل بالي كان إسترجاع حبيبيّ. وبعد أكثر مِن عشر سنوات، توفيَ عمّي ولا أخجل أن أقول بأنّه كان أسعد يوم في حياتي. وأخذتُ أوّل طائرة متّجهة إلى بلدي وركضتُ إلى المنزل الذي باتَ ملك الخائنة سامية. قرعتُ جرسها وأمرتُها بأن تفتح لي. ولِدهشتي الكبيرة فعلَت. أدخلَتني ودعَتني للجلوس وقالَت لي دون أن تجرؤ على النظر في عينيّ:
- أعلم أنّكِ تكرهينني على ما فعلته... ولا ألومكِ على ذلك، فأنا خنتُ ثقتكِ بي وجعلتكِ تعيشين مَن دون ولديكِ... لا أعلم إن كنتِ ستسامحينني يوماً ولكنّ عليكِ فهم ما حدث... أنتِ إنسانة قويّة وجريئة وتربيّتِ في أسرة تحبّكِ وتحترمكِ وتحترم آرائكِ... لا بدّ أنّ أهلكِ شجعّوكِ على إثبات شخصيّتكِ وهنّأوكِ عندما أحرزتِ النجاحات... ولكنّني لم أحظى بكل هذا... عشتُ مع أمّ ضعيفة تخاف مِن زوج مستبدّ وتنفذّ له كل ما يريده وربَتني على الطاعة وعدم النقاش... وعندما نوَيتِ الرحيل علمتُ أنّ أبي سيجعلني أدفع الثمن ولم أكن مستعدّة لِتحمّل المزيد، ففضلّتُ أن أكون مِن جانبه على أن أكون ضدّه لأنّني وبكل صراحة لستُ قويّة كفاية. ولكنّني حاولتُ التكفير عن ذنبي عبر معاملتي لولديكِ وعملتُ جهدي كي أبرّر غيابكِ عنهما بطريقة إيجابيّة وكذّبتُ أمامهما كلّ الشائعات التي أطلقَها أبي عليكِ... وعندما ماتِ، علمتُ أنّكِ آتية لأخذهما، لذا حضّرتهما لهذه اللحظة التي ينتظرانها بِفارغ الصبر.
وفتحَت باب الغرفة وركضَ إليّ ولديّ وعانقاني بقوّة وبكينا جميعاً. ثمّ نظرتُ إلى سامية وقلتُ لها:
- ما رأيكِ بالعيش في أستراليا؟
حاورتها بولا جهشان