أرادَ الإنتقام منّي بأبشع طريقة!

لم أكن أنوي إهانته عندما طلبتُ من ذلك الرجل أن يخفض صوته. كنتُ في النادي الرياضي أتمرّن كالعادة وإذ به يدخل مع رفاقه وهو يتكلّم بصوت جهور ولم يتوقف ولو ثانية واحدة عن الصراخ. حاولتُ أن أصبر ولكن بعد أكثر من ساعة، لم أعد أتحمّل فذهبتُ إليه وشرحتُ له أنني لا أستطيع التركيز على تمريني بسببه. نظر إليّ بغضب ثم إلى رفاقه وقال لي بسخرية:

- ربما حديثي لا يعجبكِ لأنّه عميق. أتفضّلين أن أتكلّم عن الشوبينغ كسائر بنات جنسكِ؟

- أولاً حديثك لم يكن عميقاً أبداً، بل عن سيّارتكَ الجديدة وثانياً أنا أهتم بأشياء كثيرة غير الشوبينغ، مثل العلوم والتكنولوجيا والإنسانيّات. وهناك مقهى في أسفل المبنى، يمكنكَ الذهاب إليه مع رفاقكَ والتحدث بما تشاء هناك، فنحن بنادي رياضي ويلزمنا جميعاً بعض الهدوء. وشكراً.

وأدرتُ له ظهري وتابعتُ تمريني. ضحِكَ عليه أصدقائه، فإستاء كثيراً. ومنذ ذلك الحين، حاولتُ تفاديه كلّما دخل القاعة، لأنّه زاد وقاحة وأصبح يرفع صوته عن قصد عند وجودي قربه. ومرّت الأيّام وتعودتُ على الوضع، لأنه لا جدوى من التعامل مع إنسان يعتبر النساء مخلوقات سخيفة وتافهة. وفي ذات يوم وجدته على غير عادة ساكتاً ينظر إلى الحائط مهموماً ولا أدري لماذا ولكنني توجهتُ إليه وسألته إن كان على ما يرام. إستغرب لسؤالي فأجبته وأنا أبتسم:

- لأنّك صامت اليوم.

ضحكنا سويّاً وسألني عن إسمي وعن عملي. لم أسأل عنه، لأنني كنتُ قد حصلتُ على معلومات عنه، عندما تحدثتُ مع منتسبين آخرين، فقالوا لي أنّ إسمه ماجد وأنّه رسّام مشهور، يظهر على التلفاز بإستمرار. وهو معروف بفنّه اللاذع، خاصة بعدما عاش حياة صعبة يصارع الفقر بعد وفاة أبيه، عندما كان صغيراً. أمّه، عمِلَت جهدها لتربيتهم ومنذ أن غادرة الحياة، تفجّرت موهبة ماجد وباتت لوحاته تباع بأسعار خياليّة وتُعرض بأهم الصالات.
وبعد فترة أصبحنا معارفاً نلقي التحيّة على بعضنا ولم يعد يرفع صوته خلال تواجده في القاعة وبدأتُ أرى فيه الإنسان الرقيق والفنان القدير الذي يتكلّم عنه الناس. فبعدما دعاني إلى فنجان قهوة، قبلتُ الدعوة بسرور متأمّلة أن أتعرّف إليه أكثر. جلسنا في مقهى وروى لي مشواره الفنيّ والمشاكل التي تشغل باله. أعطيته بضع نصائح ووعَدني أن يأخذها بعين الإعتيار. ومع مرور الأيّام شعرتُ بتعلّق به، فكنتُ أنتظر مجيئه إلى النادي وأركض إليه لألقي التحية عليه. حتى أصدقائه بدأوا يتكلّمون معي وبهدوء، وساد جو من التناغم بين المنتسبين جميعاً. وفي ذات يوم، طلبَ منّي ماجد أن أزوره في مشغله، لأرى لوحاته فقبلتُ ولكنني إصطحبتُ معي صديقتي، لأنني لم أكن أريد الذهاب لوحدي إلى ذلك المكان، فأنا إنسانة أحسب كل شيء وأصرّ على الحفاظ على سمعتي. أعجبتُ كثيراً بفنّه، فكان بالفعل فناناً موهوباً وعندما عرض عليّ الجلوس أمامه لكي يرسمني، شعرتُ بإفتخار لأنّه كان سيخلّدني على لوحة ستصبح يوماً ما مشهورة. سألتُ صديقتي إن كانت تقبل البقاء معي طيلة وقت الجلسة، فقبِلت وبدأ ماجد برسمي. أذهلنا بالنتيجة وشكرتُه بحرارة وقبل أن نغادر مشغله قلتُ له:

- كم أسأتُ فهمكَ... في البدء ظننتُ أنّكَ رجل فظ وعديم الإحساس وها أنتَ إنساناً رقيقاً ومهذباً... أرجو منكَ أن تقبل إعتذاري...

- كلّنا نقترف أغلاطاً... أنتِ معذورة يا آنسة!

وضحكنا جميعاً وعدتُ إلى البيت مسرورة.

وبعد أسبوع، دعاني ماجد لحضور معرضه الجديد في صالة معروفة في قلب العاصمة وقال لي:

- أنتِ ضيفة الشرف وأتمنّى عليكِ أن تحضري الإفتتاح ويمكنكِ جلب من تريدين من أصدقاء وأقارب فلوحتكِ ستكون معروضة هناك وستحتّل مكان الصدارة.

وعدته بأن آتي وعندما عدتُ إلى البيت، أخبرتُ أهلي وطلبتُ منهم الذهاب معي إلى المعرض وقبلوا بسرور.

وفي الموعد المذكور، توجهتُ مع ذويي وأصدقائي إلى الصالة. كنتُ قد إرتديتُ فستاناً جديداً وذهبتُ إلى مصفف شعر مشهور للمناسبة. إستقبلَني ماجد عند المدخل وألقى التحيّة على صحابي ورافقنا شخصيّاً إلى الداخل حيث وجدنا أناس كثر ومحطّات تلفزيونيّة ومصوّرين. وقادنا مباشرة إلى اللوحة التي تمثّلني وعندما رأيتُها صرختُ بأعلى صوتي وكاد أن يغمى عليّ، بينما أهلي وقفوا مذهولين لا يدرون ماذا يفعلون. كان ماجد قد رسمني عارية تماماً مستلقية على أريكة في وضع مثير. وقبل أن أستطيع فعل أو قول أي شيء، كان قد حاوطني عدد من الصحافيين فيما سألني أحدهم:

- ما شعوركِ عند رؤية نفسكِ على هذه اللوحة؟

وآخر:

- كيف تجرأتِ بالمثول أمامه هكذا وهو يرسمكِ؟

نظرتُ إليهم بدهشة، ثم إلى أهلي وإلى ذلك الرسام، فرأيته يبتسم لما فعله بي. عندها أدركتُ لعبته وأنني وقعتُ بفخ لا يمكنني الخروج منه سوى بطريقة واحدة. فأجبتُ الصحافيين:

- ماجد فنان عظيم والكل يعلم أنّ الرسام لكي يبرع، عليه البحث عن نفسه عبر ذكريات وتجارب أليمة... عندما إلتقى بي وجدَ شبه كبير بيني وبين أمّه... لذا طلبَ منّي أن يرسمني ولكن في حينها لم أكن عارية وصديقتي هذه كانت موجودة معي... مِن بعدها زاد التفاصيل الباقية ليجسّدَ أمّه عندما كانت تلك المسكينة رحمها الله تستقبل رجالاً لكي تطعمه هو وأخواته بعدما توفيَ والده وتركهم من دون شيء. بالفعل فنّ رائع...

عندما سمعوا هذ،ا أستداروا جميعاً نحو ماجد وألقوا عليه أسئلة كثيرة حول طفولته وأمّه. حاول تكذيب الخبر ولكن دون جدوى. نظر إليّ بغضب شديد وأنا أكيدة أنّه لو إستطاع لقتَلَني.

أمّا أنا، فخرجتُ مع أقربائي وعندما مررتُ من قربه همستُ بأذنه:

- إيّاكَ أن تستغبي إمرأة يوماَ وأن تستغلّها... لا أريد أن أراك في النادي مجدداً أو في أي مكان... إن إقتربتَ مني ولو مرّة أعدكَ بأن أذهب إلى جميع وسائل الإعلام وأؤكّد الخبر وأعطيهم تفاصيل أخرى.

ولم أره مجدداً إلا على شاشة تلفازي، عندما عمِلَ جهده لتسوية سمعة أمّه الراحلة. حزنتُ لأجلها ولكنّها كانت قد ماتت منذ زمن بعيد، أمّا أنا فكنتُ ما زلتُ حيّة وكان عليّ الحفاظ على سمعتي. المذنب الوحيد، كان إبنها الذي لم يتردّد على إيذائي بطريقة بشعة، دون أن يأبه لما قد يحصل لي عائليّاً وإجتماعيّاً. علمتُ بعد فترة أنّه سافر إلى الولايات المتحدة بصورة نهائية، للهروب من تلك القصّة.

حاورتها بولا جهشان  

المزيد
back to top button