ما السرّ وراء هذا الأستاذ الغامض وصفوفه ليليّة؟

عندما أخبرني إبني جواد أنّه يريد الإلتحاق بصف مسائي مخصص للتلامذة، فرحتُ كثيراً لأنّه لم يكن يُبدي أيّ إهتمام في مستقبله الدراسي. كان مختلف عن باقي أولادي الذين كانوا دائماً أوائل صفّهم وبعيدين كل البعد عن المشاكل. أمّا جواد، فكان يعود إلى البيت مغطّى بالكدمات من جراء مشاجرات مع رفاقه وكانت إدارة المدرسة قد هدّدته بالطرد النهائي.

وها هو الآن يطلب المساعدة. قمتُ فوراً بتسجيله بهذا الصف الخاص وإرتحتُ أنّ أحداً سيهتمّ بإعادة حبّ التعلّم له، خاصة أنّه كان قد أصبح في سنّ المراهقة ومن الصعب التعامل مع أولاد في هذا العمر. وباتَ جواد يتابع مع بعض الرفاق هذه الصفوف، مع أستاذ الرياضيّات والعلوم وبدأت علاماته ترتفع شهر بعد شهر. تنفّسنا الصعداء جميعاً في البيت وبدأ زوجي يرى في إبنه، شاب مسؤول ودؤوب.

 

وفي ذات نهار، عاد جواد إلى البيت في المساء ومعه جهاز خلوي جديد. تفاجأتُ للأمر، لأنّ المصروف اليومي الذي كنّا نعطيه إيّاه، كان مخصّص لشراء المطيّبات من المدرسة ولا يكفي لشراء هاتف. وعندما سألته عن كيفيّة حصوله عليه، قال لي أن أستاذه أعطاه إيّاه لكي يستطيع التواصل معه في حال كان عنده سؤال في المسائل الحسابيّة. في الحقيقة لم أصدّقه، لأنّه كان يشوّه الحقيقة من وقت إلى آخر وخشيتُ أن يكون قد حصل على الجهاز بطرق غير شرعيّة. فقررتُ أن أتكلّم مع ذلك المعلم لأعرف الحقيقة. فتوجّهتُ في اليوم التالي لمقابلته وقال لي:

 

- ما قاله لكِ جواد صحيح... لديّ هواتف قديمة لا أستعملها، فأعطيها لتلاميذي لكي أبقى على تواصل معهم ومساعدتهم حين يكونون بحاجة لي. وأقمتُ على الواتساب مجموعة تضمّ كل الذين يتابعون الصف المسائي، يستطيعون من خلالها التكلّم فيما بينهم. لا تخافي سيّدتي فإبنكِ بين أيادي أمينة.


ورجعتُ إلى البيت مليئة بالفخر بإبني الذي يجاهد ليخرج من حالته. وعندما أخبرتُ زوجي بالأمر قال لي:

 

- غريب أمر هذا الأستاذ... رأيتُ الهاتف الذي اعطاه لجواد ولم يكن قديماً... هل هذا الشخص غنيّ لدرجة أنّه يبدّل هاتفه وهو ما زال جديداً؟ أعرف أن المعلّمين لا يصبحون يوماً أثرياء...

 

وبالطبع شاطرته رأيه ولكن ثقتي بالأستاذ ونتائج صفّه كانت كافية لأنسى الموضوع. ومرّت الأيّام وقاربَت السنة الدراسيّة على الإنتهاء ولكن عندما دخلتُ يوماً إلى غرفة جواد لأرتّب خزانته، إكتشفتُ صندوقاً مخبّأً خلف الثياب يحتوي على مجموعة كبيرة من الهواتف الخليويّة والأقراص المدمجة. إنتظرتُ حتى عودة زوجي لأريه الصندوق. غضِبَ كثيراً:

 

- قلتُ لكِ أنّ ثمّة شيئاً غريباً يجري... لنرى ماذا سيقول إبننا في المساء...

 

وعاد جواد وسألناه عن هذه المعدّات في خزانته. تلبّكَ كثيراً وتلعثمَ لسانه ثم أجابَ:

 

- هذه الأشياء لا تخصّني... إنّها لصديق طلب منّي أن أبقيها عندي لبضعة أيّام.

- ما إسم ذلك الصديق؟

- لا أدري... أقصد... لا أريد أن أقول إسمه... أنا لستُ من هؤلاء الذين يفسّدون... لن أجيب!

 

صرخَ به زوجي:

 

- بل ستُجيب! أنا أبوك وآمركَ أن تفعل!


عندها بدأ جواد بالبكاء، ثم خرجَ راكضاً من المنزل. وبّختُ زوجي لأنّه كان قاسياً مع إبننا وإنتظرتُ ساعة حتى بدأتُ أبحث عنه عند أصدقائه. ولكن لم يرَه أحد، فخفتُ أن يكون قد حصل له مكروهاً. وقبل أن أتّصل بالشرطة بقليل، وصلَتني مكالمة من أستاذ جواد:

 

- سيّدتي إبنكِ عندي في المنزل... لا تخافي سأوصله بنفسي لكما...

 

غضِب زوجي كثيراً لأنّ إبنه ذهب يلتجئ عند رجل غريب ولكنني أقنعتُه بألا يقول له شيء عندما يعود. وصلَ الأستاذ مع إبننا الذي دخل غرفته دون أن يكلّمنا. حينها سألتُ الأستاذ عن الأغراض المخبّأة في خزانة ولدي. قال لنا:

 

- أخبرني كل شيء... هناك صديق له... إنّه شاب فاشل... سرقَ معدّات وأقنعَ إبنكما بإيداعها هنا.

 

- أتظنّ أنّ علينا إخبار السلطات؟

 

- لا... سأحلّ المسألة بطريقة بيداغوجيّة... فنحن المعلّمين لدينا أساليب حديثة لتلقين الدرس لمن يحتاج. أتركا الأمر لي.

 

وبعد رحيل الأستاذ، دخلتُ غرفة جواد ووجدتُه يبكي بمرارة. أخذتُه بين ذراعيّ وقلتُ له أننا سنظلّ نحبّه مهما فعل. قال لي وهو يمسح دموعه:

 

- أنتما تحبّان أشقائي أكثر منّي لأنّهم يدرسون ويأتون بعلامات جيّدة... أمّا أنا فلستُ نافعاً لشيء...

- سأخبركَ بسرّ... أبوك رسب في الباكالوريا مرّتين... وها هو إنسان ناجح اليوم... الأشخاص تتغيّر مع مرور الزمن.

 

- هل هذا صحيح؟؟؟ إذاً أنا فعلتُ كل هذا سدىً!

- ما الذي فعلته؟


وأخبَرني بكل شيء. أخبرني أنّ علاماته الأخيرة كانت مزوّرة من قِبَل الأستاذ الذي وعدَ أفراد صفّه "الخاص" أن يرفعَها إذا عملوا في بيع الهواتف وأقراص مدمجة مهرّبة. لم أصدّق أذنيّ! أضاف جواد:

 

- لم أكن أريد فعل ذلك ولكن خفتُ أن أخيّبَ ظنّكما بي. وعندما ذهبتُ الليلة عند الأستاذ، قلتُ له أنني لم أعد أريد العمل لديه، فهدّدني أن يلصقَ التهمة بي ويُقنع باقي التلاميذ على القول أنني الرأس المدبّر. أنا خائف يا أمّي.

 

- لا تخف... تعال نُخبر أبيك... سيعلم ما علينا فعله.

 

وكنتُ محقّة، فبعد أن أخبرَ جواد أبيه بالحقيقة ،إتّصل بمحام يعرفه أخذ على عاتقه متابعة القضيّة مع الشرطة. وبعد فترة قصيرة جُمعَت خلالها كل الدلائل اللازمة، تمّ القبض على الأستاذ وطُلِبَ من إبني أن يشهد ضدّه. ومقابل هذه الشهادة، وعدوه ألا تظهر هذه الجنحة في سجلّه. ولكيّ لا يضايقه أحد، قررنا نقله إلى مدرسة أخرى. وكانت هذه النقلة مفيدة جدا لجواد، الذي بدأ يحصد علامات جيّدة ويُبدي إهتماماً واضحاً بالدرس.

 

جواد اليوم مهندس إلكترونيّات لامع، يسافر إلى بلدان عديدة يُلقي بها محاضرات. قصّته هذه خير دليل أنّ الإنسان يمكنه إمّا الغوص في عالم الإجرام أو الخروج منه والنجاح في الحياة. ولو أعيُننا الساهرة وتربيتنا الصالحة وتشجيعنا لإبننا، كان سيكون اليوم وراء قضبان أحد السجون.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button