هل كانت سناء فعلاً إمرأة معنّفة؟

أظنّ أنّ حاجتي لحماية المرأة، ناتج عن سوء معاملة أبي لأمّي. كان رجلاً صارماً وعنيداً، قضى حياته يفرض رأيه على عائلته ووجدَ في والدتي الحلقة الأضعف. فلم يكن مسموح لها أن يكون لها موقفاً أو ممانعة وعانَت جداً مِن هذا الوضع حتى أن فضّلَت الإستسلام. لم نكن نسمع صوتها إلّا نادراً وكانت تقضي وقتها في الإهتمام بالمنزل بصمت. وفي مرّات عديدة، رأيتُها تبكي وحدها، ربما تحسّراً على حياتها. وكان هذا المشهد يثير غضبي الشديد ولكنّني أنا أيضاً لم أكن أجرؤ على مجابهة أبي. للحقيقة كنّا جميعاً نخاف منه ونتجنبّه، لأنّه بات مع مرور الوقت مزعجاً للغاية. ومنذ ما أصبحتُ في سنّ المراهقة وأنا أضعف أمام الفتيات التي لا صوت لهنّ وأقف إلى جانبهنّ محاولاً مساعدتهنّ. ورأى الجميع فيّ صورة المدافع عن المظلوم، الأمر الذي جلب إليّ المزيد مِن الحالات الميؤوس منها. وقضيتُ سنيناً هكذا، أضمّم جروحات التي سبّبها الآخرون، حتى أن إلتقيتُ بسناء. كانت تعمل معي في شركة تجاريّة وفي البدء لم ألاحظها حتى، فكانت متوسطة القامة ولاشيء فيها ملفت للنظر. ولكن في ذات نهار، دخلتُ المطبخ الصغير المخصّص للموظّفين بقصد تحضير فنجان قهوة لنفسي, حين رأيتُها جالسة على كرسيّ تبكي بقوّة. وركضتُ إليها سائلاً إن كان بإمكاني مساعدتها، فأجابتني:

- أنا آسفة... لا أحبّ أن يراني أحد هكذا... لذا جئتُ إلى هنا لأبكي... لا... لا تستطيع مساعدتي... ولكنّني أشكركَ على إهتمامكَ.

وخرجَت مِن المطبخ ومنذ تلك اللحظة لم أعد أفكّر في أحد غيرها. وسكوتها عن سبب تعاستها أثار فضولي، لدرجة أنني سألتُ زملائي عنها، فقالوا لي أنّها متزوّجة ولديها ولدان صغيران. وبدأتُ أقصد المطبخ كل يوم في نفس الوقت ولكن مِن دون جدوى ولم أجرؤ على الذهاب إلى مكتبها خوفاً مِن أن تقول لي أنّ لا شأن لي بحياتها الخاصة. وبقيتُ على هذا الوضع إلى حين أقيمَت حفلة آخر السنة في الشركة وإجتمعنا كلّنا في قاعة الإجتماعات لنقصّ قالب الحلوى ونشرب نخب بعضنا. ورأيتُها واقفة لوحدها في زاوية القاعة، فأخذتُ كوباً مِن العصير وحملتُه لها. شكرَتني على لطفي وسكتًت. فبدأتُ أتكلّم عن العمل، ثمّ سألتُها كيف كانت ستمضي نهاية السنة فأجابَت:

- وحدي... على ما أظنّ...

- وعائلتكِ؟

- تقصد زوجي وأولادي؟ سيذهبون إلى منزل حماتي.

- ألن تذهبي معهم؟

- لا... فأنا غير مرغوب فيّ هناك... حماتي إمرأة قاسية جداً...

وإبتسمَت لي وتركَتني واقفاً بمفردي. وقضيتُ العطلة بأكملها وأنا أفكّر بسناء وأتمنّى لو أستطيع الإتصال بها فقط لأسلّيها بوحدتها وأخفّف عنها حزنها ولكنّها كانت سيّدة متزوّجة ولم يكن ذلك مقبولاً مِن شاب أعزب مثلي. فإنتظرتُ حتى نعود إلى العمل لرؤية التي باتَت تسكن عقلي. ولكنّها لم تعد في ذلك اليوم وأصبحتُ كالمجنون أنظر إلى الباب وأنتظر قدومها. وبعد أن أدركتُ أنّها لن تأتي، بدأتُ أتصوّر أنّ مكروهاً حصل لها وركضتُ إلى المسؤول عن الموارد البشريّة أطلب عنوانها تحت ذريعة أنّها نسيَت حقيبتها في الشركة قبل العيد وعليّ إعادتها لها. وبعد أن حصلتُ على المعلومات التي طلبتُها، أسرعتُ إلى بيتها. وحين قرعتُ بابها ورأيتُها واقفة أمامي، أدركتُ أنّني لم أكن أعلم كيف أفسّر لها وجودي عندها وكل ما إستطعتُ قوله كان:

- مرحباً...

نظرَت إليّ بدهشة وإنتظرَت منّي أن أتابع ولكنّني أدرتُ ظهري وعدتُ إلى سيّارتي، ثمّ إلى عملي. وفي اليوم التالي جاءَت إليّ وقالت لي:

- أشكركَ على إهتمامكَ بأمري... أنا بخير... كنتُ مريضة بعض الشيء.

ثمّ أخذتُ يدها وسألتُها:

- هل مِن شيء أستطيع فعله مِن أجلكِ؟

- يا ليتكَ تستطيع... مصيبتي كبيرة... زوجي رجل عنيف ومستبدّ ولا يريد إعطائي حريّتي... أنا رهينة عنده، فهو يهدّدني بأخذ أولادي مني في حال رحلتُ... لهذا السبب تراني حزينة معظم الوقت... ولكن الآن أعلم أنّ هناك مَن يهتمّ لأمري وهذا يخفّف مِن تعاستي بعض الشيء... شكراً مجدداً.


وأصبحنا أصدقاء، نتواعد في مقهى صغير بعيد عن الأنظار وهناك روَت لي قصّتها مِن البداية وأرتني الكدمات على ذراعيها. وإنتابني غضب كبير لأنّني لم أقدر أن أحمي أمّي مِن طغيان أبي وكان الوضع سيتكرّر مع سناء. إقترحتُ لها أن نذهب إلى الشرطة ولكنّها أكّدت لي أنّه سينتقم منها إن فعلَت وقد يؤذيها كثيراً. وبالطبع لم يعد لديّ إنشغال سوى التفكير بطريقة لإنقاذ هذه المخلوقة الضعيفة وتأمين سلامتها بعيداً عن الوحش الذي تزوّجَته وأنجبَت منه. وإستشرتُ صديقاً لي درَسَ الحقوق وقال لي أنّ حالتها صعبة ولكن غير مستحيلة، لأنّ الأمر مرهون بتقديم إثباتات عن العنف الذي تتعرَّض إليه والحصول على شهادات لتأكيد ذلك. ولكنّ سناء كانت رافضة تماماً فكرة إقامة دعوى ضدّ زوجها:

- أنتَ لا تعرفه... الكلّ يخاف منه... لو تفوّهتُ بكلمة واحدة، أظنّ أنّه قادر على... على قتلي!

كانت قد قالت الذي كان يدور في عقلي منذ فترة، فكنتُ أخشى أن يؤذيها لدرجة القتل. عندها إقترحتُ عليها الهرب مع الأولاد وأكّدتُ لها أنّني سأهتمّ بكل التكاليف وأؤمّن لهم حياة كريمة. أجابَتني أنّها ستفكّر في الأمر. وبعد بضعة أيّام، قالَت لي أنّها وجدَت مكاناً تسكن فيه عندما تغادر المنزل الزوجي ولكنّ المالك يريد إيجار سنة مسبقاً ولكنّها لا تملك المبلغ، فأعطيتُها كل ما طلبَته مع ثمن الأثاث الذي كان سيلزمها لتستقرّ. ورغم أنّني أفرغتُ حسابي في المصرف لأساعدها، كنتُ سعيداً أنّها ستتمكنّ مِن العيش مِن دون خوف أو رعب وبدأتُ أحلم بيوم أكون فيه بقربها. وبينما كنتُ غارقاً في عالم خيالي، جاء يوم عدتُ فيه إلى الحقيقة المرّة. كنتُ عند صديق لي أنتاول العشاء، عندما جاء جاره لزيارته، فجلسَ معنا وبدأنا نتبادل الآراء فيما يخصّ الإختراعات في التكنولوجيا وعالم الهواتف، فأخبرَنا عن هاتفه الجديد الذي يأخذ صوراً تضاهي صور أهمّ الكاميرات وبدأ يرينا صوراً إلتقطَها بنفسه، حين فوجئتُ برؤية سناء في إحداها. سألتُه من تكون هذه السيّدة، فأجابَ أنّها زوجة إبن عمّه. بدأ قلبي يخفق بقوّة وسألتُه:

- أرى أنّها تبتسم... تبدو سعيدة في الصورة... هل هذه الحقيقة أم أنّكَ مصوّراً بارعاً؟

ضحكَ للإطراء ثمّ أجاب:

- لا... فإبن عمّي رجل عظيم... لطالما كان هكذا... فمنذ ما كنّا صغاراً ونذهب إليه كلّما إحتجنا لأذن صاغية أو مساعدة... أنّه عضو في جمعيّات خيريّة عديدة ويتفانى مِن أجل عائلته... زوجته فعلاً محظوظة به.

كان بإمكاني عدم تصديقه ولكنّ شيئاً بإبتسامة سناء قال لي أنّها واقفة قرب زوج تثق به وتحبّه. وبعد قليل عدتُ إلى منزلي لأفكّر بالوضع الذي طرحَ نفسه عليّ. هل يُعقل أنّها كذبَت عليّ وإدّعَت أنّها إمرأة معنّفة لتستقطب شفقتي وتأخذ منّي المال؟ كان عليّ مواجهتها ومعرفة الحقيقة منها لأضع حدّاً لما يجري. وفي اليوم التالي إنتظرتُها في العمل وطلبتُ منها موافاتي إلى المطبخ وأخبرتهُا أنّني علمتُ مِن مصادر موثوقة أنّ زوجها رجل مسالم وأنّه يحبّها كثيراً. لم تنكر بل إكتفَت بالصمت. عندها سألتُها:

- وماذا فعلتِ بمالي؟

- إشتريتُ سيّارة جديدة... إسمع... يوم رأيتَني أبكي هنا، كنتُ مريضة وبكيتُ لشدّة ألمي... أنتَ مَن حسبَ أنّني معذّبة، فمشيتُ معكَ وأسمعتكَ ما تريد سماعه. لم أجبركَ على شيء وسأعيد لكَ مالكَ.

وكانت على حقّ، فأنا الذي إخترعتُ لها مأساة لم تكن موجودة، لأنّني عجزتُ فيما مضى عن حماية والدتي وما حصلَ فتحَ أعيُني على وضع إستمرّ سنين عديدة ومنعَني مِن بناء قصّة حب سليمة. فعلى طريقتها، كانت سناء قد أسدَت لي معروفاً وساعدَتني علي متابعة حياتي بشكل أفضل.

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button