لطالما كانت يدايَ ترتجفان قليلًا في الليالي البارِدة، لكن في هذه الليلة بالذات كان الأمر مُختلِفًا. فلَم يكن البَرد هو السبب، بل فكرة أنّ هذه كانت نوبَتي الأخيرة في العمَل كحارِس أمن في المُجمَّع التجاريّ القديم. ثلاثون عامًا مِن التجوال في هذه المَمرّات، مِن التحقّق مِن الأبواب المُغلَقة، ومِن الاستماع إلى الصدى المُتباعِد لِخطوات الزوّار. والآن، حان وقت الوداع.
عشتُ حياتي ببساطة. لم أكن رجُلًا غنيًّا، لكنّني كنتُ راضيًا. زوجتي توفِّيَت قَبل خمس سنوات بعد معركة طويلة مع المرَض، ومنذ ذلك الحين، أصبَحَ المنزل أكثر هدوءً مِمّا كنتُ أُحتمَّل. إبني الوحيد، سامي، يعيشُ في مدينة أخرى مع زوجته وأطفاله، ويزورُني بين الحين والآخَر، لكنّه مشغول بحياته الخاصّة. لَم أشعُر يومًا بالوحدة في العمَل، لكن مع التقاعد، كنتُ أخشى أن أصير مُجرّد رجُل عجوز يجلِسُ في المقهى ويتحدّث مع الغرباء عن أيّامه الماضية.
لكن لِنعُد إلى تلك الليلة... فبينما كنتُ أمرُّ بِجانب قاعة الطعام المهجورة، لَمَحتُ حركة خفيفة قرب المكتبة القديمة. شدَّدتُ قبضتي على المصباح، ونادَيتُ بِحَذَر لكن بصوت ثابِت: "مَن هناك؟!؟".
لَم يأتِني رَدّ واضِح، بل همسة ضعيفة. وعندما سلَّطتُ الضوء إلى الداخل، رأيتُ شابًّا تحت بطّانية بالية في زاوية المتجَر. كان يبدو أكبَر سنًّا مِمّا هو عليه في الحقيقة، أيّ ربّما في مُنتصف العشرينات، يرتدي ملابِس رثّة، وَجهه نحيل ويحملُ آثار الإرهاق والتعَب. سألتُه:
- من تكون؟
- إسمي جميل، سيّدي.
- منذ متى وأنت هنا؟
تنَهَّدَ الشاب وأجابَ:
- أشهر عدّة... كنتُ آتي إلى هنا عندما كنتُ صغيرًا... لَم أتصوّر يومًا أنّني سأعودُ بهذه الطريقة.
أشَرتُ إليه أن نبتعِد ونجلِس على مقعد خشبيّ خارِج المتجَر، وتابَعتُ هناك الحديث معه:
- كنتَ تأتي إلى المكتبة؟
إبتسم ابتسامة خفيفة، وكأنّها تحمِل ذكريات بعيدة:
- كنتُ أُحِبّ الكتب وكان والدي يجلِبُني إلى هنا كلّ أسبوع... كنّا نشتري كتابًا جديدًا ونقضي ساعات نقرأه معًا. وكنتُ أراه أسعَد إنسان وهو يقلُب الصّفحات معي... لكنّه رَحَل فجأة إلى دنيا الحقّ، ولَم تستطِع أمّي أن تواصِل الحياة وحدها فخرجَت الأمور عن السيطرة. وبدأَت رحلتي نحو الضياع. حاولتُ كثيرًا أن أبدأ مِن جديد، إلّا أنّ الحياة لَم تمنَحني فرصة أخرى.
- ماذا حدَث؟
- إنّها قصّة طويلة لكن سأختصرُها لكَ... بعد وفاة والدي لَم يعُد لدَينا مال يكفي. حاولَت والدتي لكنّها لَم تستطِع تحمّل الأعباء وحدها، فترَكتُ أنا المدرسة وبدأتُ العمَل في سنّ صغير. ظنَنتُ أنّني أستطيع أن أصبَح شخصًا ناجِحًا بالرغم مِن ذلك، لكنّ الضغوط كانت أكثر مِمّا أتحمَّل. في أواخِر سنّ المُراهقة، تعرّفتُ على بعض رفاق السوء وجرَّبتُ المُخدّرات. في البداية كنتُ أظنّها مُجرّد هروب مؤقّت، لكنّ الإدمان لا يمنحُكَ سبيل للتراجع.
هزَّ جميل برأسه بأسىً وتابَعَ:
- خسِرتُ كلّ شيء، عمَلي وأصدقائي، حتّى أمّي تخلََّت عنّي بعد سنوات مِن محاولتي التوقّف مِن دون جدوى. دخلَتُ مصحّات إعادة التأهيل أكثر مِن مرّة، لكنّني كنتُ دائمًا أعودُ إلى الدوّامة نفسها. في النهاية، وجدتُ نفسي هنا وحيدًا بلا مكان أذهبُ إليه. هل ستُسلِّمني إلى الشرطة؟ إفعَل ما يُملي عليكَ واجبُكَ، فلا أُريدُ أن أخلقَ لكَ المتاعِب... تبدو لي رجُلًا طيّبًا وتُذكِّرُني بأبي، رحِمَه الله. آه... لو أنّه لَم يمُت... لو بقيَ معنا لبضع سنوات... أمّي إنسانة ضعيفة اتَّكلَت عليه في كلّ شيء، حتّى أصغَر الأمور.
شعَرتُ بمرارة في حَلقي ثمّ قلتُ له بهدوء:
- جميل... الحياة تُعطي فرَصًا عديدة لكن بطرق مُختلِفة. قد تعتقِد أنّ الأوان قد فاتَ، لكن صدّقني ما مِن شيء مستحيل. فلقد رأيتُ أشخاصًا كانوا أسوأ حالًا منكَ وتمَكّنوا مِن تغيير حياتهم. أنتَ تحتاج فقط إلى أن تؤمِن بأنّكَ تستحِقّ فرصة أخرى، لا تجعَل خطأ الأمس يُحدِّد مستقبلكَ بالكامل.
نظرَ جميل إليّ وكأنّ كلماتي حرَّكَت شيئًا داخله لَم يكن يتوقّعه:
- ولكن ماذا لو فشَلتُ مجدّدًا؟
- كلنا نفشَل يا جميل، لكنّ الناجحين هم مَن ينهضون بعد الفشَل. الحياة ليست مُسابقة تفوزُ فيها مِن المحاولة الأولى، بل طريق طويل تتعلَّم فيه كيف تسير بشكل أفضَل بعد كلّ سقوط.
نظَرنا إلى بعضنا للحظات طويلة ثمّ قلتُ له:
- هيّا، تعالَ نأكلُ شيًئا، المطعم الوحيد الذي لا يزال مفتوحًا يبيعُ البيتزا اللذيذة، أنت ضَيفي.
تردَّدَ الشاب للحظة ثمّ نهَضَ ببطء، وبدأنا نسير بصمت نحو المطعم. جلَسنا في قاعة الطعام نأكل ونتبادَل الأحاديث، وكأنّنا صديقان قديمان التقَيا بعد زمن طويل. ومع شروق الشمس، سلّمتُ مفاتيحي وطوَيت ثلاثين عامًا مِن العمَل في ممرّات المُجمَّع التجاريّ. لكن قَبل أن أُغادر، أخَذتُ هاتفي وأجرَيتُ مُكالمة ليس للشرطة، بل لِصديق قديم يُديرُ مأوى قريبًا، فمِهنتي خوّلَتني التعرّف إلى شتّى أنواع الناس. لقد كانت نوبَتي الأخيرة لكن ربّما لَم يَفُت الأوان بَعد لأفعَل شيئًا صالِحًا.
مرَّت سنتان منذ تلك الليلة، وأصبحَت حياتي بعد التقاعد أكثر هدوءًا، أقضي صباحي في المقهى الصغير بالقرب مِن منزلي، وأحيانًا أزورُ إبني وعائلته، لكنّني كنتُ أشعر بأنّ هناك فراغًا ما، فراغًا كان عليّ الاعتياد عليه.
وفي أحَد الأيام، بينما كنتُ جالِسًا في ذلك المقهى، سمِعتُ صوتًا مألوفًا يقول:
- عذرًا سيّدي، هل تتذكّرُني؟
رفَعتُ رأسي، ورأيتُ أمامي شابًّا أنيقًا يرتدي بذلة بسيطة، وجهه مُشرِق وملامحه أكثر صحّة مِن آخِر مرّة رأيتُه فيها. تطلَّبَ منّي الأمر لحظة، ثمّ اتّسعَت عينايَ مِن الدهشة:
- جميل؟!؟
هو ابتسَمَ قائلًا:
- نعم، هذا أنا... أبحَثُ عنكَ منذ فترة، فقد أرَدتُ فقط أن أشكركَ... كلامُكَ في تلك الليلة غيَّرَ حياتي. ذهبتُ إلى الملجأ الذي دلَلتَني عليه وتلقَّيتُ المُساعدة التي كنتُ أحتاجُها. لَم يكن الأمر سهلًا على الاطلاق، وحدَثَ مرارًا أن أرَدتُ التراجع، لكنّني تمسَّكتُ بكلامكَ عن السقوط والنهوض. تعافَيتُ أخيرًا مِن الإدمان، وحصلتُ على وظيفة في مكتبة صغيرة، فكما تعلَم أشعرُ بالراحة بين الكتب. وبالتعاون مع الملجأ، أنا الآن أُساعِد أشخاصًا يمرّون بِما مرَرتُ به، وأستعملُ معهم جُمَلكَ الحكيمة وطريقكَ في الاقناع، ونبرة صوتكَ الهادئة ونظراتكَ الخالية مِن الحكم المُسبَق. سامحَتني أمّي وأنا سامحتُها أيضًا، وأعيشُ معها مِن جديد وكأنّني لَم أترُك البيت يومًا.
شعرتُ بِغصّة في حَلقي، لكنّني ابتسمتُ بِفخر:
- هذا رائع، يا جميل. كنتُ أعلَم أنّكَ تستطيع إنقاذ نفسكَ!
هزّ جميل برأسه مُمتنًّا:
- لَم يكن ليحدُث ذلك لو لَم تكن أوّل شخص يُعاملُني كإنسان وليس كمُتشرِّد بلا أمَل. شكرًا لكَ.
شعَرَ قلبي بالدّفء، وأدرَكتُ أنّني لَم أترُك عمَلي كحارِس أمن فقط في تلك الليلة، بل ربّما تركت أثَرًا حقيقيًّا في حياة شخص ما. وربّما هذا هو أفضَل إنجاز حقّقتُه على الإطلاق.
حاورته بولا جهشان